الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 291 ] قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي

انتقل موسى من محاورة قومه إلى محاورة أخيه ، فجملة " قال يا هارون " تابعة لجملة قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا . ولجملة قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا وقد وجدت مناسبة لحكاية خطابه هارون بعد أن وقع الفصل بين أجزاء الحكاية بالجمل المعترضة التي منها جملة ولقد قال لهم هارون من قبل إلخ . . . ، فهو استطراد في خلال الحكاية للإشعار بعذر هارون كما تقدم . ويحتمل أن تكون عطفا على جملة ولقد قال لهم هارون إلخ . . ، على احتمال كون تلك من حكاية كلام قوم موسى .

علم موسى أن هارون مخصوص من قومه بأنه لم يعبد العجل ، إذ لا يجوز عليه ذلك ؛ لأن الرسالة تقتضي العصمة ، فلذلك خصه بخطاب يناسب حاله بعد أن خاطب عموم الأمة بالخطاب الماضي ، وهذا خطاب التوبيخ والتهديد على بقائه بين عبدة الصنم . والاستفهام في قوله : ما منعك إنكاري ، أي لا مانع لك من اللحاق بي ؛ لأنه أقامه خليفة عنه فيهم ، فلما لم يمتثلوا أمره كان عليه أن يرد الخلافة إلى من استخلفه .

و " إذ رأيتهم " متعلق بـ " منعك " . و " أن " مصدرية ، و " لا " حرف نفي ، وهي مؤذنة بفعل محذوف يناسب معنى النفي . والمصدر الذي تقتضيه [ ص: 292 ] " أن " هو مفعول الفعل المحذوف . وأما مفعول " منعك " فمحذوف يدل عليه " منعك " ويدل عليه المذكور . والتقدير : ما منعك أن تتبعني واضطرك إلى أن لا تتبعني ، فيكون في الكلام شبه احتباك . والمقصود تأكيد وتشديد التوبيخ بإنكار أن يكون لهارون مانع حينئذ من اللحاق بموسى ، ومقتض لعدم اللحاق بموسى ، كما يقال : وجد السبب وانتفى المانع . ونظيره قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك في سورة الأعراف فارجع إليه .

والاستفهام في قوله : أفعصيت أمري مفرع على الإنكار . فهو إنكار ثان على مخالفة أمره ، مشوب بتقرير للتهديد .

وقوله في الجواب : " يا ابن أم " نداء لقصد الترقيق والاستشفاع . وهو مؤذن بأن موسى حين وبخه أخذ بشعر لحية هارون . ويشعر بأنه يجذبه إليه ليلطمه ، وقد صرح به في الأعراف بقوله تعالى : وأخذ برأس أخيه يجره إليه .

وقرأ الجمهور " يا ابن أم " بفتح الميم . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بكسر الميم ، وأصله : يا ابن أمي ، فحذفت ياء المتكلم تخفيفا ، وهو حذف مخصوص بالنداء . والقراءتان وجهان في حذف ياء المتكلم المضاف إليها لفظ " أم " ولفظ " عم " في النداء .

وعطف الرأس على اللحية لأن أخذه من لحيته أشد ألما وأنكى في الإذلال .

وابن الأم : الأخ . وعدل عن يا أخي إلى " ابن أم " لأن ذكر الأم تذكير بأقوى أواصر الأخوة ، وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع من لبان واحد .

[ ص: 293 ] واللحية - بكسر اللام ، ويجوز فتح اللام في لغة الحجاز - : اسم للشعر النابت بالوجه على موضع اللحيين والذقن ، وقد أجمع القراء على كسر اللام من " لحيتي " . واعتذر هارون عن بقائه بين القوم بقوله : إني خشيت أن تقول فرقت ، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوما وتحميلا لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم ؛ لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور ، فيقع انشقاق بين القوم ، وربما اقتتلوا ، فرأى من المصلحة أن يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ، ويصبر المؤمنون اقتداءبهارون . ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له : وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين في سورة الأعراف . وهو الذي أشار إليه هنا بقوله : ولم ترقب قولي . فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه . وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة ، إذ تعارضت عنده مصلحتان : مصلحة حفظ العقيدة ، ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج ، وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة ، فرجح الثانية . وإنما رجحها لأنه رآها أدوم ؛ فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى . بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة ، إذا انثلمت عسر تداركها . وتضمن هذا قوله : إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . وكان اجتهاده ذلك مرجوحا ؛ لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه . لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع . كما بيناه في كتاب " أصول نظام الاجتماع الإسلامي " ؛ ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من [ ص: 294 ] واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم ، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها ، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب " مقاصد الشريعة " .

وفي قوله تعالى : " بين بني " جناس ، وطرد وعكس . وهذا بعض ما اعتذر به هارون ، وحكي عنه في سورة الأعراف أنه اعتذر بقوله : إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني .

التالي السابق


الخدمات العلمية