الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 250 ] باب الغنائم وقسمتها

                                                                                                        ( وإذا فتح الإمام بلدة عنوة ) أي قهرا ( فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين ) كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر .

                                                                                                        [ ص: 251 - 254 ] ( وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج ) كذلك فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة رضي الله عنهم ولم يحمد من خالفه ، وفي كل من ذلك قدوة فيتخير وقيل الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين ، والثاني عند عدم الحاجة ، ليكون عدة في الزمان الثاني ، وهذا في العقار .

                                                                                                        أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه ، وفي العقار خلاف الشافعي رحمه الله ، لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادله والخراج غير معادل لقلته بخلاف الرقاب ; لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه ، ولأن فيه نظرا لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العاملة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع ما أنه يحظى به الذين يأتون من بعد ، والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه ، وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة .

                                                                                                        [ ص: 250 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 250 ] باب الغنائم وقسمتها

                                                                                                        الحديث الأول : قال المصنف رحمه الله : وإذا فتح الإمام بلدة عنوة ، فهو بالخيار ، إن شاء قسمه بين المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر قلت : أخرج البخاري في " صحيحه " عن زيد بن أسلم أن عمر قال : والذي نفسي بيده ، لولا أن أترك آخر الناس ببانا ، ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، ولكن أتركها لهم خزانة ، يقتسمونها ، ورواه مالك في " الموطإ " أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : سمعت عمر يقول : لولا أن نترك آخر الناس لا شيء لهم ، ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا ، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانا انتهى .

                                                                                                        والمصنف ذكر في " باب القسامة { أنه عليه السلام أقر خيبر على أهلها ، ووضع عليهم الخراج } ، قيل : إن الطحاوي بين ذلك ، فلينظر .

                                                                                                        أحاديث الباب : أخرج أبو داود في " سننه في كتاب الخراج " عن يحيى بن زكريا عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال : { قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين ، نصفا لنوائبه ، ونصفا بين المسلمين ، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما }انتهى .

                                                                                                        قال صاحب " التنقيح " : إسناده جيد ، ويحيى بن زكريا هو ابن أبي زائدة ، وهو أحد الثقات انتهى .

                                                                                                        ثم أخرجه أبو داود عن محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما ، جمع كل سهم مائة سهم ، فكان لرسول الله [ ص: 251 ] صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود ، والأمور ، ونوائب الناس }انتهى .

                                                                                                        ثم أخرجه عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها ستة وثلاثين سهما جمعا ، فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما ، يجمع كل سهم مائة ، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم له سهم ، كسهم أحدهم ، وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما ، وهو الشطر لنوائبه ، وما ينزل به من أمر المسلمين ، فكان ذلك الوطيح ، والكتيبة ، والسلالم ، وتوابعها ، فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود ، فعاملهم }انتهى .

                                                                                                        زاد أبو عبيد في " كتاب الأموال " : { فعاملهم على نصف ما يخرج منها ، فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، حتى كان عمر ، فكثر العمال في المسلمين ، وقووا على العمل ، فأجلى عمر اليهود إلى الشام ، وقسم الأموال بين المسلمين ، إلى اليوم }انتهى .

                                                                                                        وبشير بن يسار تابعي ثقة ، يروي عن أنس ، وغيره يروي هذا الخبر عنه يحيى بن سعيد ، وقد اختلف عليه فيه ، فبعض أصحاب يحيى يقول فيه : عن بشير عن سهل بن أبي حثمة ، وبعضهم يقول : عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يرسله ، والله أعلم .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " عن عبد الرحمن بن المرقع ، قال : { لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قسمها على ثمانية عشر سهما ، فجعل لكل مائة سهما ، وهي مخضرة من الفواكه ، فوقع الناس على الفاكهة ، فأخذتهم الفاكهة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحمى قطعة من النار ، فإذا هي أخذتكم فبردوا لها الماء في الشنان ، ثم صبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء قال : ففعلوا ، فذهبت }انتهى .

                                                                                                        قال أبو الفتح اليعمري في " سيرته عيون الأثر " : اختلف العلماء في المدينة إذا فتحت عنوة ، هل تقسم أرضها بين المسلمين ، كسائر الغنائم ، أو توقف ؟ فقال الكوفيون : الإمام مخير بين أن يقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض خيبر ، أو يقر أهلها عليها ، ويضع عليهم الخراج ، كما فعل عمر بسواد العراق ، في جماعة من الصحابة ، وبالأول أخذ الشافعي ، وبالثاني أخذ مالك ، نفعا لمن يأتي بعده من المسلمين ، ثم ذكر حديث البخاري ، ثم قال : وهذا يدل على أن خيبر قسمت كلها سهمانا ، وهو رواية ابن إسحاق [ ص: 252 ] عن الزهري ، رواه أبو داود في " سننه " عن ابن إسحاق قال : سألت ابن شهاب ، فأخبرني { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال } ، وروي أيضا من حديث يونس عن الزهري نحوه ، وروي أيضا من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر ، فأصبناها عنوة ، وجمع السبي }.

                                                                                                        قال أبو عمر في " مغازيه " : وهذا هو الصحيح في { أرض خيبر أنها كانت عنوة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم جميع أرضها على الغانمين ، وهم أهل الحديبية } ، وروى موسى بن عقبة ، وغيره عن الزهري أن بعضها كان عنوة ، وبعضها كان صلحا ، قال أبو عمر : وهذا وهم ، وإنما دخل عليه ذلك من جهة الحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم ، وهما الوطيح والسلالم ، كما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر أهل خيبر في حصنهم الوطيح ، والسلالم ، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ، وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل ، فحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال وجميع الحصون ، إلا ما كان من ذينك الحصنين ، فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في الأموال على النصف ، وقالوا : نحن أعلم بها منكم ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف ، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم } ، قال أبو عمر : فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين مغنومين ظن أن ذلك صلح ، ولعمري إنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح ، ولكنهم لم يتركوا أرضهم ، إلا بالحصار والقتال ، فكان حكم أرضهما كحكم سائر أرض خيبر كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها قال : وربما شبه على هذا القائل بحديث بشير بن يسار { أنه عليه السلام قسم خيبر نصفين ، نصفا له ، ونصفا للمسلمين }.

                                                                                                        قال : وهذا إن صح ، فمعناه أن النصف له مع سائر من وقع في ذلك النصف معه ، لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما ، فوقع سهم النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه في ثمانية عشر سهما ، ووقع سائر الناس في باقيها ، وكلهم ممن شهد الحديبية ، ثم خيبر ، وليست الحصون التي أسلمها أهلها بعد الحصار والقتال صلحا ، ولو كانت صلحا لملكها أهلها ، كما يملك أهل الصلح أرضهم ، وسائر أموالهم ، قال : فالحق في ذلك ما قاله ابن إسحاق عن الزهري ، دون ما قاله موسى بن عقبة عنه انتهى كلام أبي عمر .

                                                                                                        قال أبو الفتح : ويترجح ما قاله موسى بن عقبة وغيره : إن بعض خيبر كان صلحا ، بما أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب عن مالك عن الزهري { أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها [ ص: 253 ] صلحا ، والكتيبة أكثرها كان عنوة ، وفيها صلح ، قلت لمالك : وما الكتيبة ؟ قال : أرض خيبر ، وهي أربعون ألف عذق }وروى أبو داود أيضا عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتح بعض خيبر عنوة }وروي أيضا من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري ، وعبد الله بن أبي بكر ، وبعض ولد محمد بن مسلمة ، قالوا : { بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ، ويسيرهم ، ففعل : فسمع بذلك أهل فدك ، فنزلوا على مثل ذلك }.

                                                                                                        قال : وروى أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر ، قال : أحسبه عن نافع عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر ، فغلب على النخل والأرض ، وألجأهم إلى قصرهم ، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة ، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ، ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ، ولا عهد ، فغيبوا مسكا لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل قبل خيبر ، كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير ، فيه حليهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية بن عمرو أين مسك حيي بن أخطب ؟ قال : أذهبته الحروب والنفقات ، فوجدوا المسك ، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وأراد أن يجليهم ، فقالوا : يا محمد دعنا نعمل في هذه الأرض ، ولنا الشطر ما بدأ لكم ، ولكم الشطر } ، وزاد البلاذري فيه : قال : { فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية بن عمرو إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : رأيت حييا يطوف في هذه الخربة ، ففتشوها ، فوجدوا المسك ، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم ، للنكث الذي نكثوا ، ففي هذا أنها فتحت صلحا ، وأن الصلح انتقض ، فصارت عنوة ، ثم خمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمها }

                                                                                                        ، وفي رواية بشير بن يسار المرسلة : { أنه عليه السلام عزل شطرها ثمانية عشر سهما لنوائب المسلمين ، فكان منها الوطيح ، والسلالم ، والكتيبة التي كان بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وقد تكون غلب عليها حكم الصلح ، فلذلك لم يقسم فيما قسم بين الغانمين ، والوطيح ، والسلالم } ، لم يجر لهما ذكر صريح في العنوة ، فصار هذا القول قويا انتهى كلام أبي الفتح رحمه الله .

                                                                                                        [ ص: 254 ] قوله : { وإن شاء أقر أهلها عليها ، ووضع عليهم الجزية ، وعلى أراضيهم الخراج ، هكذا فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة } ، ولم يحمد من خالفه قلت : روى ابن سعد في " الطبقات في ترجمة عثمان بن حنيف " أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز " ح " وأخبرنا مخبر عن ابن أبي ليلى عن الحكم ، ومحمد بن الميسر أن عمر بن الخطاب وجه عثمان بن حنيف على خراج السواد ، ورزقه كل يوم ربع شاة وخمسة دراهم ، وأمره أن يمسح السواد عامره وغامره ، ولا يمسح سبخة ، ولا تلا ، ولا أجمة ، ولا مستنقع ماء ، ولا ما لا يبلغه الماء ، فمسح عثمان كل شيء دون الجبل يعني حلوان إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات وكتب إلى عمر : إني وجدت كل شيء بلغه الماء من عامر وغامر ستة وثلاثين ألف ألف جريب ، وكان ذراع عمر الذي مسح به السواد ذراعا وقبضة ، فكتب إليه عمر : أن افرض الخراج على كل جريب عامر أو غامر ، عمله صاحبه ، أو لم يعمله ، درهما وقفيزا ، وافرض على الكرم ، وعلى كل جريب عشرة دراهم ، وعلى الرطاب [ ص: 255 ] خمسة دراهم ، وأطعمهم النخل والشجر ، وقال : هذا قوة لهم على عمارة بلادهم ، وفرض على رقابهم ، على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين درهما ، وعلى من لم يجد شيئا اثني عشر درهما ، وقال : درهم لا يعوز رجلا في كل شهر ، ورفع عنهم الرق بالخراج الذي وضعه في رقابهم ، وجعلهم أكرة في الأرض ، فحمل من خراج سواد الكوفة إلى عمر في أول سنة ، ثمانون ألف ألف درهم ، ثم حمل من قابل ، مائة وعشرون ألف ألف درهم ، ولم يزل كذلك انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن زنجويه في " كتاب الأموال " حدثنا الهيثم بن عدي أنبأني عبد الله بن عباس عن الشعبي " ح " وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز " ح " قال الهيثم : وأنبأنا ابن أبي ليلى عن الحكم ، قالوا : وجه عمر عثمان بن حنيف ، الحديث .




                                                                                                        الخدمات العلمية