الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا

لم يزد موسى في عقاب السامري على أن خلعه من الأمة ، إما لأنه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأن موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مثل الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين ، وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - أما إنه من أهل النار ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكان النبيء - عليه الصلاة والسلام - أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم . فقوله : " فاذهب " الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك [ ص: 298 ] منهم فإن جهنم جزاؤكم ، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في كتابه ولم يعزه :

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما وبك والأيام من عجب



ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله ، كقول النبهاني من شعراء الحماسة :

فإن كنت سيدنا سدتنا     وإن كنت للخال فاذهب فخل



أما قوله : فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حظه في حياته أن يقول : لا مساس ، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا ، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس ، عائشا وحده ، لا يترك أحدا يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب ، كقوله : ولا تمسوها بسوء ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي : مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية .

" ومساس " بكسر الميم في قراءة جميع القراء ، وهو مصدر ماسه بمعنى مسه ، و " لا " نافية للجنس ، و " مساس " اسمها مبني على الفتح . وقوله : وإن لك موعدا اللام في " لك " استعارة تهكمية ، كقوله تعالى وإن أسأتم فلها أي فعليها . وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعدا له ، أي موعد الحشر والعذاب ، فالموعد مصدر ، أي وعد لا يخلف وعد الله لا يخلف الله وعده . وهنا توعد بعذاب الآخرة .

وقرأ الجمهور " لن تخلفه " بفتح اللام مبنيا للمجهول ؛ للعلم بفاعله وهو الله تعالى ، أي لا يؤخره الله عنك ، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد .

[ ص: 299 ] وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بكسر اللام ، مضارع أخلف ، وهمزته للوجدان . يقال : أخلف الوعد ، إذا وجده مخلفا ، وإما على جعل السامري هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه ، وذلك على طريق التهكم تبعا للتهكم الذي أفاده لام الملك .

وبعد أن أوعد موسى السامري بين له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهية ؛ لأنه للامتهان والعجز ، فقال : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا . فجعل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بين لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة ؛ فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات . وأضاف الإله إلى ضمير السامري تهكما بالسامري وتحقيرا له ، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية ؛ لما تدل عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه .

وقوله : " ظلت " بفتح الظاء في القراءات المشهورة ، وأصله : ظللت ، حذفت منه اللام الأولى تخفيفا من توالي اللامين ، وهو حذف نادر عند سيبويه ، وعند غيره هو قياس . وفعل " ظل " من أخوات " كان " ، وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النهار ، وهو هنا مجاز في معنى دام بعلاقة الإطلاق بناء على أن غالب الأعمال يكون في النهار .

والعكوف : ملازمة العبادة ، وتقدم آنفا .

وتقديم المجرور في قوله : عليه عاكفا للتخصيص ، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره ، أي دون الله تعالى .

[ ص: 300 ] وقرأ الجمهور " لنحرقنه " بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة . والتحريق : الإحراق الشديد ، أي لنحرقنه إحراقا لا يدع له شكلا . وأراد به أن يذيبه بالنار حتى يفسد شكله ويصير قطعا .

وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر " لنحرقنه " بضم النون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء . وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء ؛ لأنه يقال : أحرقه وحرقه .

والنسف : تفريق وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب . وأراد باليم البحر الأحمر المسمى بحر القلزم ، والمسمى في التوراة : بحر سوف ، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور .

و " ثم " للتراخي الرتبي ؛ لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له . وأكد " ننسفنه " بالمفعول المطلق ؛ إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ، ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنه إله .

التالي السابق


الخدمات العلمية