الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2241 (33) باب في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله

                                                                                              [ 1131 ] عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم-: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بهما ، قالت: بئس ما قلت . يا ابن أختي! طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وطاف المسلمون فكانت سنة، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية ، التي بالمشلل ، لا يطوفون بين الصفا والمروة . فلما كان الإسلام سألنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [البقرة: 158] ولو كانت كما تقول: لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأعجبه ذلك. وقال: إن هذا العلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب ، يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء.

                                                                                              وفي رواية قالت عائشة : إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغسان يهلون لمناة ، فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنة في آبائهم ، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة ، وإنهم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أسلموا فأنزل الله الآية .

                                                                                              وفي أخرى: قالت : إنما كان ذلك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون ، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما ، للذي كانوا يصنعون في الجاهلية ، قالت: فأنزل الله الآية .

                                                                                              وفي أخرى : قالت عائشة : قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

                                                                                              رواه أحمد ( 6 \ 144 )، والبخاري (1643)، ومسلم (1277) (259 و 261 و 263)، والترمذي (2965)، والنسائي ( 5 \ 238 ).

                                                                                              [ ص: 382 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 382 ] (33) ومن باب: قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة : 158]

                                                                                              قد تقدم الكلام في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة: 158] في حديث جابر . واختلف العلماء في حكم الطواف بين الصفا والمروة ; هل هو ركن في الحج والعمرة ؟ كما ذهب إليه الجمهور ، أو ليس بركن ، كما ذهب إليه جماعة من السلف وغيرهم ؟ ثم من هؤلاء من قال : إنه تطوع لا يجبر بالدم ; وهم : أنس ، وعبد الله بن الزبير ، وابن سيرين . ومنهم من قال : يجبر بالدم ; وهم : الحسن البصري ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة . وربما أطلق عليه بعضهم لفظ الواجب. وقال أصحاب الرأي : إن تركه أو أربعة منه ; فعليه دم . وإن ترك من الثلاثة شيئا ; فعليه لكل شوط إطعام مسكين نصف صاع من حنطة . والصحيح مذهب الجمهور على ما يأتي .

                                                                                              وقول عروة : ( ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي [ ص: 383 ] ألا أطوف بهما ) ; إنما فهم هذا عروة من ظاهر قوله تعالى : فلا جناح عليه أن يطوف بهما ووجه فهمه أن رفع الحرج عن الفعل إنما يشعر بإباحته ، لا بوجوبه ، وهو مقتضى ظاهرها ; إذا لم يعتبر سبب نزولها. فإذا وقف على سبب نزولها تحقق الواقف عليه : أنها إنما أتت رافعة لحرج من تحرج من الطواف بينهما على ما يأتي .

                                                                                              وقد اختلف فيه قول عائشة ، واختلف الرواة عنها في ذلك. ففي بعض الروايات عنها : أن أهل المدينة كان من أهل منهم لمناة ; لم يطف بينهما. وكأن هؤلاء بقوا بعد الإسلام على ذلك الامتناع حتى أنزلت الآية. وفي بعضها : أن من أهل لإساف ونائلة بالإسلام خافوا ألا يكون مشروعا لمن لم يهل لهما . فرفع الله تلك التوهمات كلها بقوله : فلا جناح عليه وقد ذكر أبو بكر بن عبد الرحمن عند سماعه قول عائشة -رضي الله عنها- ما يدل على سببين آخرين ، نص عليهما في معنى الحديث ، ويرتفع الإشكال ، ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة بالطريق الذي سلكه أبو بكر بن عبد الرحمن ; حيث قال : فأراها نزلت في هؤلاء [ ص: 384 ] وهؤلاء . فنقول : نزلت الآية جوابا لجميع هؤلاء الذين ذكرت أسبابهم . ورافعة للحرج عنهم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و(مناة) : صنم كان نصبه عمرو بن لحي بجهة البحر بالمشلل . وهو موضع مما يلي قديدا . وقال ابن الكلبي : مناة : صخرة لهذيل بقديد .

                                                                                              و (قوله في الرواية الأخرى : ( إن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر; يقال لهما : إساف ونائلة ) هكذا رواية أبي معاوية عند الكافة من الرواة ، وعند ابن الحذاء : (في الجاهلية لمناة) وكانت صنمين على شط البحر . وهذا هو الصحيح ، كما تقدم من قول الكلبي وغيره . قالوا : وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط بجهة البحر ، وإنما كانا - فيما يقال - رجل اسمه : إساف بن بقاء ، ويقال : ابن عمرو ، وامرأة اسمها : نائلة ابنة ذئب ، ويقال : ديك ، ويقال : بنت سهل ; كانا من جرهم زنيا في داخل الكعبة ; فمسخهما الله حجرين ، فنصبا عند الكعبة . وقيل : بل على الصفا والمروة ، ليعتبر بهما ويتعظ . ثم حولهما قصي ; فجعل أحدهما لصق الكعبة ، والآخر بزمزم . وقيل : بل جعلهما بزمزم ، ونحر عندهما ، وأمر بعبادتهما ، فلما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة كسرهما . والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 385 ] وقولها : ( لو كانت كما قلت ; لكانت : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ) هذا يدل : على أن الذي روي : أنه في مصحف أبي : (ألا يطوف بهما) بإثبات (ألا) ليس بصحيح ; إذ لو كان كذلك لكانت عائشة -رضي الله عنها- أعرف الناس به ، ولما خفي عليها ، ولا على غيرها ممن له عناية بالقرآن .

                                                                                              وقولها : ( قد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ) ; سن : بمعنى شرع وبين . وهو ركن واجب من أركان الحج والعمرة عند جمهور السلف ، وفقهاء الخلف ، كما تقدم ، ولا ينجبر بالدم ، ومن تركه ، أو شوطا منه ; عاد إليه ما لم يصب النساء ; فإن أصاب أعاد قابلا حجة أو عمرة . واستدل للجمهور : بأن الله تعالى قد جعله من الشعائر ، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : (خذوا عني مناسككم) وبحديث أم حبيبة بنت أبي تجراة الشيبية ، قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بين الصفا والمروة ، وهو يقول : (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) غير أن هذا الحديث تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وهو يسيء الحفظ ، واستيفاء الاستدلال في مسائل الخلاف .




                                                                                              الخدمات العلمية