الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما غير الراتبة فهي الصلوات التي يتطوع الإنسان بها في الليل والنهار وأفضلها التهجد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل } وأنها تفعل في وقت غفلة [ ص: 534 ] الناس وتركهم الطاعات فكانت أفضل ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { ذاكرو الله في الغافلين كشجرة خضراء بين أشجار يابسة } وآخر الليل أفضل من أوله لقول الله تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون } ولأن الصلاة بعد النوم أشق ولأن المصلين فيه أقل فكان أفضل ، فإن جزأ الليل ثلاثة أجزاء فالثلث الأوسط أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه } ولأن الطاعات في هذا الوقت أقل فكانت الصلاة فيه أفضل ، ويكره أن يقوم الليل كله لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : { تصوم بالنهار ؟ : قلت : نعم ، قال : وتقوم الليل ؟ فقلت : نعم ، قال : لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني . } )

                                      [ ص: 536 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة رواه مسلم ، وأما الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو بن العاص " فرواه البخاري ومسلم ، وأما حديثه الآخر فرواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ ، ولفظه عندهما أن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا } وذكر الحديث ، ورويا في الصحيحين هذا اللفظ المذكور في المهذب من رواية أنس واعلم أنه يقع في أكثر النسخ في الحديث الأول عبد الله بن عمر بغير واو فيقتضي أن يكون عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهذا غلط صريح لا شك فيه ولا تأويل له ، وصوابه عبد الله بن عمرو بن العاص كما ذكرناه أولا ، وحديثه هذا في الصحيحين وسائر كتب الحديث .

                                      قال العلماء : التهجد أصله الصلاة في الليل بعد النوم ، وقوله تعالى : { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قال المفسرون وأهل اللغة : الهجوع النوم في الليل . [ ص: 535 ] واختلفوا في معنى الآية فقيل : إن ما صلة . والمعنى كانوا يهجعون قليلا من الليل ويصلون أكثره ، وقليل معناه كان الليل الذي ينامونه كله قليلا ، وقيل بالوقف على قليلا أي كانوا قليلا من الناس . ثم يبتدأ من الليل ما يهجعون أي لا ينامون شيئا منه وضعف هذا القول . والأسحار جمع سحر وهو آخر الليل . قال الماوردي في تفسيره : قال ابن زيد : السحر السدس الآخر من الليل ، وقوله " فإن جزأ الليل ثلاثة أجزاء " يقال : جزأ بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان فصيحتان حكاهما ابن السكيت وغيره ، وبعدها همزة أي قسم .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقيام الليل سنة مؤكدة ، وقد تطابقت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة . والأحاديث الواردة فيه في الصحيحين وغيرهما أشهر من أن تذكر ، وأكثر من أن تحصر . قال أصحابنا وغيرهم : والتطوع المطلق بلا سبب في الليل أفضل منه في النهار لحديث أبي هريرة المذكور في الكتاب مع ما ذكره المصنف فإن قسم الليل نصفين فالنصف الآخر أفضل ، وإن قسمه أثلاثا مستوية فالثلث الأوسط أفضلها وأفضل منه السدس الرابع والخامس لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور في الكتاب في صلاة داود صلى الله عليه وسلم وهذا مراد المصنف والشافعي في المختصر . وغيرهم بقولهم : الثلث الأوسط أفضل ، وينبغي أن لا يخل بصلاة الليل وإن قلت ، ويكره أن يقوم كل الليل دائما للحديث المذكور في الكتاب ، فإن قيل : ما الفرق بينه وبين صوم الدهر غير أيام النهي فإنه لا يكره عندنا ؟ فالجواب أن صلاة الليل كله دائما يضر العين وسائر البدن كما جاء في الحديث الصحيح بخلاف الصوم فإنه يستوفي في الليل ما فاته من أكل النهار ولا يمكنه نوم النهار إذا صلى الليل لما فيه من تفويت مصالح دينه ودنياه .

                                      هذا حكم قيام الليل دائما فأما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل واتفق أصحابنا على إحياء ليلتي العيدين ، } والله أعلم . .



                                      [ ص: 536 ] فرع ) في مسائل مهمة تتعلق بصلاة الليل ( إحداها ) يسن لكل من استيقظ في الليل أن يمسح النوم عن وجهه ، وأن يتسوك وأن ينظر في السماء ، وأن يقرأ الآيات التي في آخر آل عمران { إن في خلق السموات والأرض } الآيات . ثبت كل ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم



                                      ( الثانية ) السنة أن يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ثم يصلي بعدهما كيف شاء لحديث عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين } رواه مسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين } رواه مسلم .



                                      ( الثالثة ) السنة أن يسلم من كل ركعتين وسنوضحه قريبا بدلائله وفروعه إن شاء الله تعالى



                                      ( الرابعة ) تطويل القيام عندنا أفضل من تطويل السجود والركوع وغيرهما وأفضل من تكثير الركعات ، وقد سبقت المسألة بدلائلها ومذاهب العلماء فيها في أول باب صفة الصلاة



                                      ( الخامسة ) هل يستحب الجهر بالقراءة في صلاة الليل ؟ أم الإسرار ؟ أم التوسط بينهما ؟ فيه ثلاثة أوجه سبقت بدلائلها في باب صفة الصلاة ، وذكرت هناك جملة من الأحاديث الواردة في المسألة ، وهذا الخلاف فيمن لا يتأذى بجهره أحد ولا يخاف به رياء ونحوه ، فإن اختل أحد هذين الشرطين أسر بلا خلاف ، والسنة ترتيل قراءته وتدبرها ولا بأس بترديد الآية للتدبر وإن طال ترديدها .



                                      ( السادسة ) إذا نعس في صلاته فليتركها وليرقد حتى يذهب عنه النوم لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم وهو ناعس يذهب يستغفر فيسب نفسه } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه [ ص: 537 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع } رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال : ما هذا ؟ قالوا لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به ، فقال : حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد } رواه البخاري ومسلم والأحاديث الصحيحة بهذا المعنى مشهورة .



                                      ( السابعة ) يستحب للرجل إذا استيقظ لصلاة الليل أن يوقظ لها امرأته ، ويستحب للمرأة إذا استيقظت لها أن توقظ زوجها لها ، ويستحب لغيرهما أيضا لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : { سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتنة ، ماذا أنزل من الخزائن . من يوقظ صواحب الحجرات ، يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة } رواه البخاري . وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { طرقه وفاطمة ليلة فقال : ألا تصليان ؟ قال : فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } } رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء } رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح . وعن أبي سعيد وأبي هريرة جميعا قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كتب من الذاكرين والذاكرات } رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد صحيح .



                                      ( الثامنة ) يستحب لمن أراد قيام الليل أن لا يعتاد منه إلا قدرا يغلب على ظنه بقرائن حاله أنه يمكنه الدوام عليه مدة حياته ، ويكره بعد ذلك تركه والنقص منه لغير ضرورة ، ودلائل هذا كله في الصحيحين مشهورة ، منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { خذوا من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا } رواه البخاري [ ص: 538 ] ومسلم ، ومعناه لا يعاملكم معاملة المال ويقطع عنكم الثواب حتى تملوا . وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { سئل أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : أدومه وإن قل } رواه البخاري ومسلم . وعنها قالت : { كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة } رواه مسلم . وعنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته ، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة . قالت : وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح ، وما صام شهرا متتابعا إلا رمضان } رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل } رواه البخاري ومسلم وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل . قال سالم : فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا . } ورواه البخاري ومسلم ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : { ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح ، قال : ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ، أو قال : في أذنه } رواه البخاري ومسلم ، والأحاديث في الصحيحين بمعنى ما ذكرته كثيرة



                                      ( التاسعة ) ينبغي له أن ينوي عند نومه قيام الليل نية جازمة ليحوز ما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه } رواه النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح على شرط مسلم .



                                      ( العاشرة ) يستحب استحبابا متأكدا أن يكثر من الدعاء والاستغفار في ساعات الليل كلها وآكده النصف الآخر وأفضله عند الأسحار ، قال الله تعالى { والمستغفرين بالأسحار } وقال تعالى { وبالأسحار هم يستغفرون } وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 539 ] { إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة } رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعو فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له } رواه البخاري ومسلم . وفي هذا الحديث وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران ( أحدهما ) تأويله على ما يليق بصفات الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن الانتقال وسائر صفات المحدث ، وهذا هو الأشهر عن المتكلمين ( والثاني ) الإمساك عن تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن صفات المحدث لقوله تعالى { ليس كمثله شيء } وهذا مذهب السلف وجماعة من المتكلمين ، وحاصله أن يقال : لا نعلم المراد بهذا ولكن نؤمن به مع اعتقادنا أن ظاهره غير مراد ، وله معنى يليق بالله تعالى والله أعلم .



                                      ( فرع ) الصحيح المنصوص في الأم والمختصر أن الوتر يسمى تهجدا ، وفيه وجه أنه لا يسمى تهجدا ، بل الوتر غير التهجد .

                                      ( فرع ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا } رواه البخاري . .

                                      ( فرع ) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، وبالقيلولة على قيام الليل } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف : القيلولة في اللغة النوم نصف النهار ، وقد سبق أن أحاديث الفضائل يعمل فيها بالضعيف




                                      الخدمات العلمية