الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب جعل تعليم القرآن صداقا 2738 - ( عن سهل بن سعد : { أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال : ما أجد شيئا ، فقال : التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شيء ؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، لسور يسميها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قد زوجتكها بما معك من القرآن } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي رواية متفق عليها : { قد ملكتكها بما معك من القرآن } وفي رواية متفق عليها : { فصعد فيها النظر وصوبه } ) .

                                                                                                                                            2739 - ( وعن أبي النعمان الأزدي قال : { زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن ، ثم قال : لا يكون لأحد بعدك مهرا } رواه سعيد في سننه وهو مرسل ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي النعمان مع إرساله قال في الفتح : فيه من لا يعرف .

                                                                                                                                            وفي الباب عن أبي هريرة عن أبي داود والنسائي . وعن ابن مسعود عند الدارقطني . وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وأبي عمر بن حيويه في فوائده . وعن ضميرة جد حسين بن عبد الله عند الطبراني . وعن أنس عند البخاري والترمذي . وعن أبي أمامة عند تمام في فوائده . وعن جابر عند أبي الشيخ .

                                                                                                                                            قوله : ( جاءته امرأة ) قال الحافظ : هذه المرأة لم أقف على اسمها . ووقع في الأحكام لابن الطلاع أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك ، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } صلى الله عليه وسلم ، ولكن هذه غيرها . قوله : ( وهبت نفسي ) هو على حذف مضاف : أي أمر نفسي ; لأن [ ص: 203 ] رقبة الحر لا تملك . قوله : ( فقام رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه . ووقع في رواية للطبراني : " فقام رجل أحسبه من الأنصار " . قوله : ( ولو خاتما ) في رواية : " ولو خاتم " بالرفع على تقدير حصل . ولو في قوله : " ولو خاتما " تعليلية . قال عياض : ووهم من زعم خلاف ذلك ووقع في رواية عند الحاكم والطبراني من حديث سهل : { زوج رجلا بخاتم من حديد فصه فضة } . قوله : ( هل معك من القرآن شيء ؟ ) المراد بالمعية هنا : الحفظ عن ظهر قلبه . وقد وقع في رواية : " أتقرؤهن على ظهر قلبك " بعد قوله : " معي سورة كذا ومعي سورة كذا " وكذلك في رواية الثوري عند الإسماعيلي بلفظ : " قال : عن ظهر قلبك ؟ قال : نعم " .

                                                                                                                                            قوله : ( سورة كذا وسورة كذا ) وقع في رواية من حديث أبي هريرة : " سورة البقرة أو التي تليها " كذا عند أبي داود والنسائي . ووقع في حديث ابن مسعود : " نعم سورة البقرة وسورة من المفصل " وفي حديث ضميرة : { زوج صلى الله عليه وسلم رجلا على سورة البقرة لم يكن عنده شيء } وفي حديث أبي أمامة : { زوج صلى الله عليه وسلم رجلا من الصحابة امرأة على سورة من المفصل جعلها مهرا وأدخلها عليه ، وقال : علمها } ، وفي حديث أبي هريرة : { فعلمها عشرين آية وهي امرأتك } ، وفي حديث ابن عباس : { أزوجها منك على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله } وفي حديث ابن عباس وجابر : { هل تقرأ من القرآن شيئا ؟ قال : نعم ، إنا أعطيناك الكوثر ، قال : أصدقها إياها } .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض ، أو أن القصص متعددة . والحديث يدل على جواز جعل المنفعة صداقا ولو كانت تعليم القرآن . قال المازري : هذا ينبني على أن الباء للتعويض كقولك : بعتك ثوبي بدينار ، قال : وهذا هو الظاهر ، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكرمه لكونه حاملا للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة ، والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال الطحاوي والأبهري وغيرهما بأن هذا خاص بذلك الرجل لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له نكاح الواهبة ، فكذلك يجوز له إنكاحها من شاء بغير صداق . واحتجوا على هذا بمرسل أبي النعمان المذكور لقوله فيه : " لا يكون لأحد بعدك مهرا " . وأجيب عنه بما تقدم من إرساله وجهالة بعض رجال إسناده . وأخرج أبو داود من طريق مكحول قال : ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوه

                                                                                                                                            ، ولا حجة في أقوال التابعين . قال عياض : يحتمل قوله : " بما معك من القرآن " وجهين أظهرهما : أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها ، وقد جاء هذا التفسير عن مالك . ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة : فعلمها من القرآن ، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية . ويحتمل أن تكون الباء بمعنى [ ص: 204 ] اللام : أي لأجل ما معك من القرآن ، فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر ، لأجل كونه حافظا للقرآن أو لبعضه . ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم فيما أخرجه النسائي وصححه عن أنس قال : { خطب أبو طلحة أم سليم فقالت : والله ما مثلك يرد ، ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك ، فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره ، فكان ذلك مهرها } . وأخرج النسائي أيضا نحوه من طريق أخرى ويؤيد الاحتمال الأول ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه : يا فلان هل تزوجت ؟ قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج به قال : أليس معك قل هو الله أحد } .

                                                                                                                                            وأجاب بعضهم عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجها إياه لأجل ما معه من القرآن الذي حفظه وسكت عن المهر فيكون ثابتا في ذمته إذا أيسر كنكاح التفويض . ويؤيده ما في حديث ابن عباس حيث قال فيه : { فإذا رزقك الله فعوضها } قال في الفتح : لكنه غير ثابت . وأجاب البعض باحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه لأجل ما حفظه من القرآن وأصدق عنه كما كفر عن الذي واقع امرأته في رمضان ، ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التحريض على تعلم القرآن وتعليمه والتنويه بفضل أهله . وأجيب بما تقدم من التصريح بجعل التعليم عوضا .

                                                                                                                                            وقد ذهب إلى جواز جعل المنفعة صداقا الشافعي وإسحاق والحسن بن صالح ، وبه قالت العترة ، وعند المالكية فيه خلاف ، ومنعه الحنفية في الحر وأجازوه في العبد ، إلا في الإجارة على تعليم القرآن فمنعوه مطلقا بناء على أن أصلهم في أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يجوز ، وقد تقدم الكلام على ذلك . وقد نقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة إلا الحنفية . وقال ابن العربي : من العلماء من قال : زوجه على أن يعلمها من القرآن ، فكأنها كانت إجارة ، وهذا كرهه مالك ومنعه أبو حنيفة . وقال ابن القاسم : يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده . قال : والصحيح جوازه بالتعليم .

                                                                                                                                            وقال القرطبي : قوله : " علمها " نص في الأمر بالتعليم ، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح فلا يلتفت لقول من قال : إن ذلك كان إكراما للرجل ، فإن الحديث مصرح بخلافه . وقولهم : إن الباء بمعنى اللام ليس بصحيح لغة ولا مساقا .

                                                                                                                                            وفي الحديث فوائد : منها : ثبوت ولاية الإمام على المرأة التي لا قريب لها ، وقد أطال الكلام على ما يتعلق بالحديث من الفوائد في الفتح ، وذكر أكثر من ثلاثين فائدة ، فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية