الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النوع الرابع عشر :

                                                                                                                الملاقاة وما يتعلق بها من المصافحة والمعانقة ونحو ذلك

                                                                                                                وفي " الموطأ " قال عليه السلام : " تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تتحابوا وتذهب الشحناء " . وفي غيره : " إذا تلاقى الرجلان فتصافحا تحاثت ذنوبهما وكان أقربهما إلى الله أكثرهما بشرا " ، قال الباجي : يحتمل أن يريد المصافحة بالأيدي ، [ ص: 297 ] وقال علقمة : تمام التحية المصافحة ، وجوز مالك المصافحة ، ودخل عليه سفيان بن عيينة فصافحه وقال : لولا أن المعانقة بدعة لعانقتك ، فقال سفيان : عانق من هو خير مني ومنك النبي صلى الله عليه وسلم - لجعفر حين قدم من أرض الحبشة - ، قال مالك : ذلك خاص ، قال سفيان : بل عام ما يخص جعفرا يخصنا وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين ، أفتأذن لي أن أحدث في مجلسك ؟ قال : نعم ، يا أبا محمد ، قال : حدثني عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل بين عينيه ، وقال : جعفر أشبه الناس بنا خلقا وخلقا ، يا جعفر ، ما أعجب ما رأيت بأرض الحبشة ؟ قال : يا رسول الله ، بينا أنا أمشي في بعض أزقتها إذا سوداء على رأسها مكيل بر ، فصدمها رجل على دابته ، فوضع مكيلها ، وانتشر برها ، فأقبلت تجمعه من التراب ، وهي تقول : ويل للظالم من ديان يوم القيامة ، ويل للظالم من المظلوم يوم القيامة ، فقال النبي عليه السلام : " لا يقدس الله أمة لا تأخذ لضعيفها من قويها حقه غير مقنع . ثم قال سفيان : قدمت لأصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبشرك برؤيا رأيتها نامت عينك خيرا إن شاء الله ، قال سفيان : رأيت كأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فأقبل الناس يهرعون من كل جانب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يرد بأحسن رد ، قال سفيان : فأتي بك والله أعرفك في منامي كما أعرفك في يقظتي ، فسلمت عليه ، فرد عليك السلام ، ثم رمى في حجرك بخاتم نزعه من أصابعه ، فاتق الله فيما أعطاك عليه السلام ، فبكى مالك بكاء شديدا ، قال سفيان : السلام عليكم ، قال : خارج الساعة ؟ قال : نعم ، فودعه مالك ، وخرج .

                                                                                                                وعن مالك : كراهة المصافحة ، والمعانقة ، وعلى هذه الرواية : المصافحة التي في الحديث صفح بعضهم عن بعض من العفو ، قال : وهو أشبه ; لأنه يذهب بالغل غالبا ، واحتج مالك على منع المصافحة باليد بقوله تعالى : ( إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام ) ولم يذكر مصافحة ، ولأن السلام ينتهى فيه [ ص: 298 ] للبركات ، قال قتادة : قلت لأنس : أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولأنها تمام المودة ، فناسب أيضا إذهاب الغل ، وفي " القبس " قال عليه السلام : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما ، قال صاحب " المقدمات " : المصافحة مستحبة وهو المشهور ، وإنما كره المعانقة ; لأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعلها إلا مع جعفر ، ولم يصحبها العمل من الصحابة بعده عليه السلام ، ولأن النفوس تنفر عنها ; لأنها لا تكون إلا لوداع ، أو من فرط ألم الشوق ، أو مع الأهل ، والمصافحة فيها العمل .

                                                                                                                ويكره تقبيل اليد في السلام لاحتمال أن يكون أفضل منه عند الله ، وسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع آيات بينات ، فقال لهم : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تولوا الفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت ، فقاموا فقبلوا يده ورجليه ، وقالوا نشهد أنك نبي ، قال : فما " يمنعكم أن تتبعوني " ، قالوا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                                                                                                قال صاحب " البيان " : ففعل اليهود ذلك مع المسلم لا يكره ، وكان عبد الله بن عمر إذا قدم من سفره قبل سالما ، وقال : شيخ يقبل شيخا ، إعلاما أن هذا جائز على هذا الوجه لا على وجه مكروه .

                                                                                                                قالت عائشة رضي الله عنها : وقدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ، فأتاه ، فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه ، والله ما رأيته عريانا قبله ، ولا بعده ، فاعتنقه وقبله ، قال الترمذي حديث حسن غريب ، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من الحبشة ، وأما القبلة في الفم للرجل من الرجل فلا رخصة فيها بوجه .

                                                                                                                قال ابن يونس قال مالك : إذا قدم من سفره فلا بأس أن تقبله ابنته وأخته ، [ ص: 299 ] ولا بأس أن يقبل خد ابنته ، وكره أن تقبله ختنته ومعتقته ، وإن كانت متجالة ، وأجاز مالك المعانقة في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه إذا قدم من السفر ، وقيل : هذه الرسالة لم تثبت لمالك .

                                                                                                                قال مالك : ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم ، فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه فيجلسه في مجلسه ، قال يكره ذلك ، ولا بأس أن يوسع له ، قيل : فالمرأة تلقى زوجها تبالغ في بره ، وتنزع ثيابه ، ونعليه ، وتقف حتى يجلس ، قال : ذلك حسن غير قيامها حتى يجلس ، وهذا فعل الجبابرة ، وربما كان الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا ، ليس هذا من فعل الإسلام ، وفعل ذلك لعمر بن عبد العزيز أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره ، وقال : إن تقوموا نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين ، وقال عليه السلام : " من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " ، قيل له : فالرجل يقبل يد الرجل ، أو رأسه ، قال هو من عمل الأعاجم لا من عمل الناس ، وأما تقبيل رأس ابنه فخفيف ، ولا يقبل خد ابنه ، أو عمه ، قال : لم يفعله الماضون .

                                                                                                                قال صاحب " البيان " : القيام أربعة أقسام : حرام إذا فعل تعظيما لمن يحبه تجبرا على العالمين ; ومكروه إذا فعل تعظيما لمن لا يحبه كذلك ; لأنه يشبه فعل الجبابرة ، ولتوقع فساد قلب المقوم له ، ومباح إذا فعل إجلالا لمن لا يريده ; ومندوب للقادم من السفر فرحا بقدومه ليسلم عليه أو يشكر إحسانه ، أو للقادم المصاب ليعزيه في مصيبته ، وبهذا يجمع بين قوله عليه السلام : من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار " ، وبين قيامه عليه السلام لعكرمة بن أبي جهل لما قدم من اليمن فرحا بقدومه ، وقيام طلحة بن عبيد الله لكعب بن مالك ليهنئه بتوبة الله عليه بحضوره عليه السلام ، ولم ينكر عليه ولا قام من مجلسه ، فكان كعب يقول : لا أنساها لطلحة .

                                                                                                                وكان عليه السلام يكره أن يقام له ، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لعلمهم [ ص: 300 ] بكراهيته لذلك ، وإذا قام إلى بيته لم يزالوا قياما حتى يدخل بيته ، لما يلزمهم من تعظيمه قبل علمهم بكراهيته لذلك ، وقال عليه السلام للأنصار : قوموا لسيدكم ، قيل : تعظيما له وهو لا يحب ذلك ، وقيل : ليعينوه على النزول على الدابة .

                                                                                                                تنبيه : حضرت عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام من أعيان العلماء الشافعية الربانيين فحضرته فتيا : ما تقول في القيام الذي أحدثه الناس في هذا الزمان هل يحرم أم لا ؟ فكتب رحمه الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " ، وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة ، والمدابرة ، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدا ، فقرأتها بعد كتابته رحمه الله ، والناس تحدث لهم أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات ، والمعاملات ، والاحتياطات ، وهي على القوانين الأولى غير أن الأسباب تجددت ، ولم يكن في السلف ، وقد بسطت من هذا طرفا في ولاية المظالم في كتاب الأقضية .

                                                                                                                ويلحق بالقيام النعوت المعتادة ، وأنواع المكاتبات على ما قرره الناس في المخاطبات ، وهذا النوع كثير لم تكن أسبابه في السلف ، غير أنه قد تقرر في قاعدة الشرع اعتبار هذه الأسباب كما قال الشيخ رضي الله عنه ، فإذا وجدت وجب اعتبارها ، وفي هذا التنبيه كفاية .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية