الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النوع السادس عشر : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر

                                                                                                                قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن أن يبعث الله عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " ، قال الترمذي حديث [ ص: 303 ] حسن ، وفي " الجواهر " : إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر بثلاثة شروط : الأول : أن يعلم ما يأمر به وينهى عنه .

                                                                                                                الثاني : أن يأمن أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكثر منه ، مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيئول نهيه عنه إلى قتل النفس ونحوه .

                                                                                                                الثالث : أن يغلب على ظنه أن إنكاره مزيل له ، وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع .

                                                                                                                وفقد أحد الشرطين الأولين يمنع الجواز ، وفقد الثالث يسقط الوجوب ، ويبقى الجواز والندب .

                                                                                                                ثم مراتب الإنكار ثلاث : أقواها أن يغير بيده ، وإن لم يقدر على ذلك انتقل للمرتبة الثانية ، فيغير بلسانه إن استطاع ، وليكن برفق ولين ووعظ إن احتاج إليه ، لقوله عليه السلام : " من أمر منكم بمعروف فليكن أمره بالمعروف ، وقال الله تعالى : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) فإن لم يقدر انتقل للرتبة الثالثة ، وهي الإنكار بالقلب ، وهي أضعفها ، قال عليه السلام : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ، أخرجه أبو داود ، وفي " الصحاح " نحوه ، وفيه : وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .

                                                                                                                سؤال : قد نجد أعظم الناس إيمانا يعجز عن الإنكار ، وعجزه لا ينافي تعظيمه لله تعالى وإيمانه به ; لأن الشرع منعه بسبب عجزه عن الإنكار لكونه يؤدي إلى مفسدة أعظم ، أو نقول : لا يلزم من العجز عن القربة نقص الإيمان بها كالصلاة ، فما معنى قوله عليه السلام : ذلك أضعف الإيمان ؟

                                                                                                                الجواب : المراد بالإيمان هنا الإيمان الفعلي الوارد في قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) ، أي : صلاتكم للبيت المقدس ، وقال عليه السلام : الإيمان [ ص: 304 ] سبع وخمسون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق . وأقوى الإيمان الفعلي إزالة اليد ، ثم القول ; لأنه قد يؤثر في الإزالة ، وإنكار القلب لا يؤثر في إزالة فهو أضعفها ، أو يلاحظ عدم تأثيره في الإزالة فيبقى مطلقا ، وهو الرواية الأخرى .

                                                                                                                قال محمد بن يونس : قال مالك : ضرب محمد بن المنكدر وأصحابه في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وضرب ربيعة وحلق رأسه ولحيته في شيء غير هذا ، وضرب ابن المسيب وأدخل في تبان من شعر ، وقال عمر بن عبد العزيز : ما أغبط رجالا لم يصبهم في هذا الأمر أذى ، ودخل أبو بكر بن عبد الرحمن ، وعكرمة بن عبد الرحمن على ابن المسيب في السجن ، وقد ضرب ضربا شديدا ، فقالا له : اتق الله فإنا نخاف على دمك ، فقال : اخرجا عني أتراني ألعب بديني كما لعبتما بدينكما ، وقال ابن مسعود : تكلموا بالحق تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله .

                                                                                                                قال مالك : ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله فإن عصوا كانوا شهودا على من عصاه ، ويأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد ولا نهى عن منكر .

                                                                                                                تنبيه : قال بعض العلماء لا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون الملابس له عاصيا ، بل يشترط أن يكون ملابسا لمفسدة واجبة الدفع ، أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول ، وله أمثلة : أحدها : أمر الجاهل بمعروف لا يعرف إيجابه ، أو نهيه عن منكر لا يعرف تحريمه ، وثانيها : قتل البغاة ، وثالثها : ضرب الصبيان على ترك الصلاة ، ورابعها : قتل المجانين والصبيان إذا صالوا على الدماء ، والأبضاع ، ولم يمكن دفعهم إلا بقتلهم ، وخامسها : أن يوكل وكيلا بالقصاص ثم يعفو ويخبر الوكيل فاسق بالعفو ، أو متهم فلا يصدقه فأراد القصاص ، فللفاسق أن يدفعه بالقتل إذا لم يمكن إلا به دفعا لمفسدة القتل بغير حق ، وسادسها : وكله في بيع جارية [ ص: 305 ] فباعها فأراد الموكل أن يطأها ظنا منه أن الوكيل لم يبعها ، فأخبره المشتري أنه اشتراها فلم يصدقه ، فللمشتري دفعه ولو بالقتل ، وسابعها : ضرب البهائم للتعليم والرياضة ( دفعا ) لمفسدة الشراس والجماح .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال العلماء : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إجماعا على الفور ، فمن أمكنه أن يأمر بمعروف وجب عليه الجمع ، مثاله : أن يرى جماعة تركوا الصلاة يأمرهم بكلمة واحدة : قوموا للصلاة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                من أتى شيئا مختلفا فيه ، وهو يعتقد تحريمه أنكر عليه ; لانتهاكه الحرمة ، وإن اعتقد بحليته لم ينكر عليه إلا أن يكون مدرك الحل ضعيفا ينقض الحكم بمثله لبطلانه في الشرع ، كواطئ الجارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء ، وشارب النبيذ معتقدا مذهب أبي حنيفة ، وإن لم يكن معتقدا تحريما ، ولا تحليلا أرشد لاجتنابه من غير ترجيح .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية