الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ثم الميت إما شهيد أو غيره ، والشهيد إما شهيد الآخرة فقط وهو كل مقتول ظلما أو ميت بنحو بطن كالمستسقى وغيره خلافا لمن قيده بالأول أو طعن أو غرق أو غربة وإن عصى [ ص: 497 ] بركوبه البحر أو بغربته كما قاله الزركشي خلافا لمن قيدها بالإباحة أو طلق ولو من حمل زنا قياسا على ذلك وإن استثنى الحامل المذكورة ، فأي فرق بينها وبين من ركب البحر ليشرب الخمر ومن سافر آبقا أو ناشزة ، والأوجه في ذلك أن يقال : إن كان الموت معصية كأن تسببت في إلقاء الحمل فماتت أو ركب البحر وسير السفينة في وقت لا تسير فيه السفن فغرق لم تحصل له الشهادة للعصيان بالسبب المستلزم للعصيان بالمسبب ، وإن لم يكن السبب معصية حصلت الشهادة وإن قارنها معصية ; لأنه لا تلازم بينهما ، أو عشق بشرط العفة والكتمان كما قيده الزركشي بذلك لخبر فيه موقوف على ابن عباس وإن لم يتصور إباحة نكاحها له شرعا وتعذر وصوله إليها .

                                                                                                                            قال : وإلا فعشق الأمرد معصية فكيف يحصل بها درجة الشهادة ، وهو ظاهر في عشق اختياري له مندوحة عن تركه وتمادى عليه . أما لو فرض حصول عشق اضطراري له بحيث لا مندوحة له عن تركه لم يمنع حصول الشهادة ، إذ لا معصية به حينئذ .

                                                                                                                            وأما شهيد الدنيا فقط فلا يغسل ولا يصلى عليه وهو من قتل في قتال الكفار بسببه وقد غل من الغنيمة أو قتل مدبرا أو قاتل رياء أو نحوه .

                                                                                                                            وأما شهيدهما فهو من قتل كذلك لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وحيث أطلق الفقهاء الشهيد انصرف لأحد الآخرين ، وحكمهما ما ذكره بقوله ( ولا يغسل الشهيد ولا يصلى عليه ) أي يحرمان لما صح { أنه صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم } ، وفي رواية " ولم يصل " ببنائه للمفعول ، وروى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كلم أو دم يفوح مسكا يوم القيامة } وحكمة ذلك أيضا إبقاء أثر الشهادة عليهم والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم ، [ ص: 498 ] وفي ذلك حث على الجهاد الذي جبلت النفوس على حب البقاء في الدنيا المنافي لطلبه غالبا ، وليس في ترك الصلاة على الأنبياء حث ; لأن مرتبتها لا تنال بالاكتساب .

                                                                                                                            وأما خبر { أنه صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت } ، زاد البخاري " بعد ثمان سنين " فالمراد كما في المجموع دعا لهم كدعائه للميت والإجماع يدل له إذ لا يصلى عليه عندنا ، وعند المخالف لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام ، ثم عرف من هذا حكمه بقوله ( وهو ) أي الشهيد الذي يحرم غسله والصلاة عليه ضابطه أنه كل ( من مات ) ولو امرأة أو رقيقا أو غير مكلف ( في قتال الكفار ) أو الكافر الواحد سواء أكانوا أهل حرب أم ردة أم ذمة قصدوا قطع الطريق علينا ونحو ذلك ( بسببه ) أي القتال ، سواء أقتله كافر أم عاد إليه سهمه أم أصابه سلاح مسلم خطأ أم تردى في وهدة أم رفسته دابة فمات أو قتله مسلم باغ استعان به أهل الحرب كما شمله قتال الكفار أم قتله بعض أهل الحرب حال انهزامهم انهزاما كليا بأن تبعهم فكروا عليه فقتلوه فكأنه قتل في حال القتال أم قتله الكفار صبرا أم انكشف الحرب عنه ولم يعلم سبب [ ص: 499 ] موته وإن لم يكن عليه أثر دم ; لأن الظاهر أن موته بسبب القتال كما جزما به .

                                                                                                                            وإنما لم يخرج ذلك على قولي الأصل والغالب ; لأن السبب الظاهر يعمل به ويترك الأصل كما لو رأينا ظبية تبول في الماء فرأيناه متغيرا فإنا نحكم بنجاسته مع أن الأصل طهارة الماء .

                                                                                                                            ثم أشار إلى الأول من أقسام الشهيد المتقدم ، وهو شهيد الآخرة ، فقال ( فإن مات بعد انقضائه ) أي القتال بجراحة يقطع بموته منها وفيه حياة مستقرة فغير شهيد في الأظهر ، سواء أطال الزمان أم قصر لحياته بعد انقضاء القتال فأشبه موته بسبب آخر والثاني يلحقه بالميت في القتال .

                                                                                                                            أما لو انقضى القتال وحركة المجروح فيه حركة مذبوح فشهيد جزما أو توقعت حياته فليس بشهيد جزما ( أو ) مات عادل ( في قتال البغاة ) . له ( فغير شهيد في الأظهر ) ; لأنه قتيل مسلم فأشبه المقتول في غير القتال ، وقد غسلت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه ابنها عبد الله بن الزبير ولم ينكر عليها أحد .

                                                                                                                            والثاني نعم ; لأنه كالمقتول في حركة الكفار ( وكذا ) لو مات ( في القتال لا بسببه ) أي القتال كموته بمرض أو فجأة أو قتله مسلم عمدا فغير شهيد ( على المذهب ) ; لأن الأصل وجوب الغسل والصلاة عليه خالفنا فيما إذا مات بسبب من أسباب القتال ترغيبا للناس فيه فبقي من عداه على الأصل .

                                                                                                                            والشهيد فعيل بمعنى مفعول ، سمي بذلك ; لأن الله ورسوله شهدا له بالجنة ; ولأنه يبعث وله شاهد بقتله إذ يبعث وجرحه يتفجر دما ولأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيقبضون روحه ، وقيل إنه شهيد في وجه ; لموته في قتال الكفار .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : كالمستسقي وغيره ) قال في شرح التحرير : أو المحدود ، وكتب عليه العلامة الشوبري قال عليه في كلامهم عبد الحق في حاشية المحلي في تنقيح اللباب : أو حدا ، وحمله بعضهم ليشمله الظلم المقتصر عليه في كلامهم على ما إذا قتل على غير الكيفية المأذون فيها ، والأوجه حمله على ما إذا سلم نفسه لاستيفاء الحد منه تائبا ا هـ .

                                                                                                                            أقول : الأقرب أنه شهيد مطلقا سواء زيد على الحد المشروع أو لا سلم نفسه أم لا بدليل ما لو شرق بالخمر ومات أو ماتت بسبب الولادة من حمل الزنا أو نحوهما ; لأن صور الشهادة لم تنحصر في كونه مظلوما .

                                                                                                                            [ فائدة ] عد السيوطي في منظومته المسماة بالتثبيت الشهداء الذين لا يسألون سبعة ، وهم : المقتول في سبيل الله والمرابط والمطعون والصديق قال شارحه وهو دائم الصدق والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ومن مات يوم الجمعة أو ليلتها ومن واظب على تبارك الملك في كل ليلة قال شارحه بعد أن فرغ من شرح كلامه فهؤلاء سبعة شهداء لا يسألون ، وبقي جماعة نالوا مرتبة الشهادة مع كونهم مسئولين وهم نيف وثلاثون من مات بالبطن أو الغرق أو الهدم أو بالجنب أو بالجمع بالضم إلى آخر ما ذكر ا هـ ، فجعل رحمه الله المبطون وما ذكر معه ليسوا من الشهداء لكنهم نالوا مرتبتهم ، وعليه فما معنى كون أولئك السبعة شهداء وكون من عداهم في مرتبتهم وما المراد بالشهادة وقوله أو بالجمع بالضم ؟ قال في المصباح : وماتت المرأة بجمع بالضم وبالكسر إذا ماتت وفي بطنها ولد ، ويقال أيضا للتي ماتت بكرا ا هـ ( قوله أو طعن ) وكذا من مات في زمنه وإن لم يطعن ا هـ حج .

                                                                                                                            وظاهره وإن لم يكن من نوع [ ص: 497 ] المطعونين بأن كان الطعن في الأطفال أو الأرقاء وهو من غيرهم .

                                                                                                                            قال المناوي في شرح الجامع الصغير عند قوله صلى الله عليه وسلم { إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش } ما نصه : أي الذين يألفون النيام على الفراش ولا يهاجرون الفراش ويقصدون للغزو ، قال الحكيم : هؤلاء قوم اطمأنت نفوسهم إلى ربهم وشغلوا به عن الدنيا وتمنوا لقائه ، فإذا حضرهم الموت جادوا بأنفسهم طوعا وبذلوها له إيثارا لمحبته على محبتها فهم ومن قتل في معركة المشركين سيان ، فينالون منازل الشهداء لأن الشهداء بذلوا أنفسهم ساعة من نهار وهؤلاء بذلوها طول العمر ، ثم قال : تنبيه : عدوا من خصائص هذه الأمة أنهم يقبضون على فرشهم وهم شهداء عند الله ا هـ .

                                                                                                                            وقوله في شرح الحديث ولا يهاجرون الفراش إلخ : يعني أنهم لا يفارقون منازلهم للسفر في تجارة ونحوها بل يلازمون المنازل ينتظرون الغزو ( قوله : وإن استثنى ) أي الزركشي ( قوله : فغرق لم تحصل له الشهادة ) ومنه ما لو صاد حية وهو ليس حاذقا في صيدها ونحو البهلوان إذا لم يكن حاذقا في صنعته ، بخلاف الحاذق فيهما فإنه شهيد لعدم تسببه في هلاك نفسه ( قوله : وهو ممن يتصور إباحة نكاحها له ) وفي نسخة وإن لم يتصور إباحة نكاحها له شرعا ويتعذر وصوله إليها كعشق المرد وهي المعتمدة ( قوله : وهو ظاهر في عشق اختياري ) قال سم على منهج بعد ما ذكر : والمعتمد عند شيخنا الرملي وغيره عدم الفرق بين المرد وغيرهم حيث كان الفرض العفة والكتمان ، بل قال طب وم ر : وإن كان السبب المؤدي إلى عشق الأمرد اختياريا حيث صار اضطراريا وعف وكتم ، والله أعلم ، ومعنى العفة : أن لا يكون في نفسه إذا اختلى به حصل بينهما فاحشة بل عزمه على أنه وإن خلا به لا يقع منه ذلك ، والكتمان : أن لا يذكر ما به لأحد ولو محبوبه ( قوله : وقد غل من الغنيمة ) أي سرق ( قوله : فهو من قتل كذلك ) أي في قتال الكفار ( قوله : أمر في قتلى أحد بدفنهم ) أي وأما من استشهد قبلهم من المسلمين كأهل بدر فالظاهر أنه لم ينقل فيهم عنه غسل ولا عدمه ، ولعل حكمة ذلك أن الصحابة كانوا يتقيدون بأمرهم .

                                                                                                                            وأما أحد فلشدة ما حصل للمسلمين فيها ، باشره النبي صلى الله عليه وسلم فنقل ( قوله : فإن كل جرح أو كلم ) الظاهر أنه شك من الراوي ; لأن الكلم هو الجرح [ ص: 498 ] قوله : إذ لا يصلى عليه ) أي الشهيد ( قوله : وهو من مات ولو امرأة ) وقع السؤال في الدرس عما لو كان مع المرأة ولد صغير ومات بسبب القتال هل يكون شهيدا أم لا ؟ فأجبت عنه بأن الظاهر الثاني فليراجع لأنه لم يصدق عليه أنه مات في قتال الكفار بسببه فإن الظاهر من قولهم في قتال الكفار أنه بصدده ولو بخدمة للغزاة أو نحوها ( قوله : قصدوا قطع الطريق علينا ) احترز به عما لو قتل واحد منهم مسلما غيلة ( قوله : بسببه ) أي القتال ، ومنه ما قيل إن الكفار يتخذون خديعة يتوصلون بها إلى قتل المسلمين فيتخذون سردابا تحت الأرض يملئونه بالبارود ، فإذا مر به المسلمون أطلقوا النار فيه فخرجت من محلها وأهلكت المسلمين .

                                                                                                                            [ فائدة ] قال ابن الأستاذ : لو كان المقتول في حرب الكفار عاصيا بالخروج ففيه نظر عندي قال : والظاهر أنه شهيد أما لو كان فارا حيث لا يجوز الفرار فالظاهر أنه ليس بشهيد في أحكام الآخرة لكنه شهيد في أحكام الدنيا ، وأطال الكلام على ذلك في جواب المسائل الحلبية فلينظر ا هـ سم على بهجة في أثناء كلام .

                                                                                                                            [ فرع ] قال في تجريد العباب : لو دخل حربي بلاد الإسلام فقاتل مسلما فقتله فهو شهيد قطعا ، ولو رمى مسلم إلى صيد فأصاب مسلما في حال القتال فليس بشهيد ، قاله القاضي حسين ا هـ سم على منهج .

                                                                                                                            قال سم حج : بقي ما لو استعان أهل العدل بكفار قتلوا واحدا من البغاة حال الحرب هل يكون شهيدا ؟ فيه نظر ا هـ ، والأقرب أنه شهيد ، ثم رأيت في سم على بهجة التصريح بما قد يؤخذ منه ذلك ، وعبارته قال الناشري : ويدخل في كلامه : أي الحاوي ما لو استعان الحربيون علينا ببغاتنا فقتل واحد من البغاة واحدا منا عمدا لأنه مات في قتال الكفار بسببه ، ويحتمل أن ينظر إلى القاتل نفسه ، قاله الأذرعي وأقول : هذا الاحتمال يرده قولهم أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد إليه سلاحه أو سقط عن فرسه أو رمحته دابته لا يغسل ولا يصلى عليه ا هـ وبقي أيضا ما لو استعان البغاة بالكفار ثم إن واحدا من البغاة قتل واحدا منا فهل يكون شهيدا نظرا لاستعانتهم بكفار أم لا ؟ فيه نظر ، والأقرب الثاني فليراجع .

                                                                                                                            ثم نقل بالدرس عن شرح الغاية لسم التصريح بما قلناه وزيادة ما لو قتل واحد من الكفار واحدا من أهل العدل فإنه يكون شهيدا كما صرح به في الخادم ، وعبارته : ولو استعان الكفار علينا بمسلمين فمقتول المستعان بهم شهيد لأن هذا قتال كفار ، ولا نظر إلى خصوص القاتل أو استعان البغاة علينا بكفار فمقتول المستعان بهم شهيد دون مقتول البغاة نقله في الخادم عن القفال ، والفرق بين هذه والتي قبلها أن مقاتلة المسلم في تلك تبع فكان قتله موجبا للشهادة بخلاف هذه ا هـ .

                                                                                                                            وبقي ما لو شك في كون المقتول هل قتله مسلم أو كافر والأقرب أنه ليس بشهيد ( قوله : أم أصابه سلاح مسلم خطأ ) ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين أن يقصد كافرا فيصيبه [ ص: 499 ] أو لا ولا مانع منه ( قوله : لأنه قتيل مسلم ) يؤخذ منه أنه لو قتله كافر استعانوا به كان شهيدا وبه صرح حج ، وقد تقدم ذلك عن الناشري



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( قوله : كالمستسقى ) مثال للنحو ، وقوله : خلافا لمن قيده بالأول : يعني خلافا لمن قيد المبطون الواقع في الأحاديث بمن مات بمرض البطن المتعارف : أي الإسهال وإن كانت عبارته تقصر عن ذلك [ ص: 497 - 499 ] قوله : يقطع بموته منها ) قيد به ; لأنه محل الخلاف ( قوله : وحركة المجروح فيه حركة مذبوح ) محترز قوله وفيه حياة مستقرة ، وقوله : أو توقعت حياته محترز قوله يقطع بموته منها على طريق اللف والنشر المشوش .

                                                                                                                            والحاصل أن المجروح المذكور إما أن تكون حركته حركة مذبوح فهو شهيد جزما ، وإما أن تكون فيه حياة مستقرة ثم هذا إما أن يقطع بموته من الجراحة كأن قطعت أمعاؤه فهو شهيد في الأظهر ، وإما أن لا يقطع بموته منها بل تتوقع [ ص: 500 ] حياته فغير شهيد جزما




                                                                                                                            الخدمات العلمية