الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل: قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .

هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه، وذلك يحتمل موطن القسم، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه. "وأخذتم" في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة، فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا; وقال الطبري: أخذتم في هذه الآية معناه: قبلتم، والإصر: العهد، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك. وقوله تعالى: "فاشهدوا" يحتمل معنيين: أحدهما: فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، هذا قول الطبري وجماعة، والمعنى الثاني: بينوا الأمر عند أممكم واشهدوا به، وشهادة الله تعالى على هذا التأويل وهي التي في قوله: وأنا معكم من الشاهدين هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم، هذا قول الزجاج وغيره، فتأمل. القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها. وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره. ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله: "فاشهدوا" أمر بالأداء.

وقرأ أبو عمرو: "يبغون" بالياء مفتوحة، "وترجعون" بالتاء مضمومة، وقرأ عاصم "يبغون" و "يرجعون" بالياء معجمة من تحت فيهما، وقرأ الباقون بالتاء فيهما. ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل.

و"تبغون" معناه: تطلبون. و"أسلم" في هذه الآية بمعنى: استسلم عند جمهور المفسرين، و"من" في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين.

[ ص: 275 ] واختلفوا في معنى قوله "طوعا وكرها" - فقال مجاهد: هذه الآية كقوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها. فهذا عموم في لفظ الآية، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل، و"أسلم" فيه بمعنى استسلم، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع، وعبارته رحمه الله: كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله حي وأنا أعبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعا. وقال ابن عباس: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق. وروي عن مجاهد أنه قال: الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر، فيسجد المؤمن طوعا ويسجد ظل الكافر وهو كاره. وقال الشعبي: الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره، وذلك هو الذي يسجد كرها;. وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات. وقال الحسن بن أبي الحسن: معنى الآية أنه أسلم قوم طوعا، وأسلم قوم خوف السيف. وقال مطر الوراق: أسلمت الملائكة طوعا، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف. وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان، والآية ظاهرها العموم ومعناها الخصوص، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعا ولا كرها على هذا الحد. وقال قتادة: الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه. ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد، والمعنى في هذه الآية يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة، والتوقيف بقوله "أفغير" إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار. وقرأ أبو بكر عن عاصم، "أصري" بضم الألف وهي لغة.

التالي السابق


الخدمات العلمية