الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون

جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة اقترب للناس حسابهم إلى آخرها ؛ لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها . فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم ، وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى " للناس " وليست جملة وأسروا النجوى عطفا على جملة استمعوه وهم يلعبون ؛ لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر . [ ص: 13 ] و " الذين ظلموا " بدل من واو الجماعة ؛ لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى ؛ ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم ، وللنداء على قبح ما هم متصفون به . وجملة هل هذا إلا بشر مثلكم بدل من " النجوى " ؛ لأن ذلك هو ما تناجوا به . فهو بدل مطابق . وليست هي كجملة قالوا إن هذان لساحران من جملة فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى في سورة طه ، فإن تلك بدل بعض من كل ؛ لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى .

ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به ؛ لئلا يتصدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرد عليهم ؛ لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية ، يرومون بها أن يضللوا الدهماء ، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما تكاثر بمكة الذين أسلموا ، فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام ، فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم .

والنجوى : المحادثة الخفية . والإسرار : هو الكتمان والكلام الخفي جدا . وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم في سورة براءة ، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا لـ " أسروا " في قوله تعالى : وأسروا النجوى في " سورة طه " ، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان ، وبالغوا في إخفائها ؛ لأن شأن التشاور في المهم كتمانه ؛ كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده .

والاستفهام في قوله : هل هذا إلا بشر مثلكم إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم .

[ ص: 14 ] وكذلك الاستفهام في قوله : أفتأتون السحر إنكاري ، وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم . والمعنى : أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به ، فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه .

وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة ؛ لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه ، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبيء - صلى الله عليه وسلم - لسماع دعوته ، فجعلوه إتيانا ؛ لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها ، وجعلوا كلامه سحرا ؛ فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه . وهذا كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون في سورة فصلت .

وقوله : وأنتم تبصرون في موضع الحال ، أي تأتون السحر وبصركم سليم ، وأرادوا به العلم البديهي ، فعبروا عنه بالبصر ؛ لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية