الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ الإيمان بالنفخ في الصور ] ( وبقيامنا بنفخ الصور ) أي وكما يدخل في الإيمان باليوم الآخر الموت وما بعده من فتنة القبر ونعيمه أو عذابه وباللقاء والبعث والنشور والقيام من القبور كذلك يدخل في ذلك الإيمان بالصور والنفخ فيه الذي جعله الله سبب الفزع والصعق والقيام من القبور وهو القرن الذي وكل الله تعالى به إسرافيل كما تقدم في ذكر الملائكة وقد ذكر الله عز وجل النفخ فيه في مواضع من كتابه كقوله عز وجل : [ ص: 800 ] ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) ( الزمر : 68 ) الآيات . وقال تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ) ( النمل : 87 ) الآيات . وقال تعالى : ( قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) ( الأنعام : 73 ) . ولنسق هاهنا حديث الصور بطوله لما فيه من المناسبة لهذه الآيات ولما اجتمع فيه مما تفرق في غيره من الأحاديث وبالله التوفيق .

      قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية الأخرى : وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني في كتابه المطولات قال : حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيلي حدثنا أبو عاصم النبيل حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال : " إن الله تعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصا بصره في العرش ينتظر متى يؤمر " قلت : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : " القرن " قلت : كيف هو ؟ قال : " عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماوات والأرض ، ينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ ، فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، يأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر وهو كقول الله تعالى : ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) ( ص : 15 ) فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة المرمية في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح وهو الذي يقول : ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة ) ( النازعات : 6 ) فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار ، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ما لهم من أمر الله من عاصم [ ص: 801 ] ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله تعالى : ( يوم التناد ) فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت السماء فانتثرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " . قال أبو هريرة : يا رسول الله ، من استثنى الله عز وجل حين يقول ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) ( النمل : 87 ) قال أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه " قال " وهو الذي يقول الله عز وجل : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) ( الحج : 1 - 2 ) فيقومون في ذلك العذاب ما شاء الله تعالى إلا أنه يطول ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا وجاء ملك الموت إلى الجبار عز وجل فيقول يا رب قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت ، فيقول الله تعالى وهو أعلم بمن بقي ، فمن بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة العرش وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا . فيقول الله عز وجل : ليمت جبريل وميكائيل . فينطق الله تعالى العرش فيقول : يا رب يموت جبريل وميكائيل ؟ فيقول اسكت ، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي ، فيموتان . ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول : يا رب ، قد مات جبريل وميكائيل . فيقول الله عز وجل وهو أعلم بمن بقي ، فمن بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك وبقيت أنا . فيقول الله تعالى : لتمت حملة العرش . فتموت . ويأمر الله تعالى العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك . فيقول الله وهو أعلم بمن بقي ، فمن بقي ؟ فيقول : يا رب ، بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا . فيقول الله تعالى : أنت خلق [ ص: 802 ] من خلقي خلقتك لما رأيت ، فمت . فيموت . فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، كان آخرا كما كان أولا طوى السماوات والأرض طي السجل للكتب ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات ثم يقول أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ثم هتف بصوته لمن الملك اليوم ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ، ثم يقول لنفسه : لله الواحد القهار . يقول الله تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) ( إبراهيم : 48 ) فيبسطهما ويسطحهما ثم يمدهما مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثم ينزل الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوما حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله عز وجل : ليحيى حملة عرشي ، فيحيون ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول ليحيى جبريل وميكائيل فيحييان ثم يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نورا وأرواح الكافرين ظلمة فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث فينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنهم وأنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون سراعا إلى ربكم تنسلون ( مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ) القمر : 8 ) حفاة عراة غرلا ، فتقفون موقفا واحدا مقداره سبعون عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم فتبكون حتى تنقطع الدموع ثم تدمعون دما وتعرقون حتى يلجمكم العرق بذلك الأذقان وتقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فتقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ويقول ما أنا بصاحب [ ص: 803 ] ذلك فيستقرئون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاءوا نبيا أبى عليهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخر ساجدا " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الفحص ؟ قال : " قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي : يامحمد . فأقول : نعم يا رب . فيقول عز وجل : ما شأنك وهو أعلم ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم . قال الله : قد شفعتك ، أنا آتيكم أقضي بينكم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف إذ سمعنا من السماء حسا شديدا فهالنا ، فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا ، وهو آت . ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا ، وهو آت . ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة فيحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة ، أقدامهم في تخوم الأرض السفلى والأرض والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم ، لهم زجل في تسبيحهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح ، سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت . فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلي ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم ثم يقول : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون ) ( يس : 60 63 ) أو [ ص: 804 ] ( بها تكذبون ) شك أبو عاصم : ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) ( يس : 59 ) فيميز الله الناس وتجثو الأمم ، يقول الله تعالى : ( وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) ( الجاثية : 28 ) فيقضي الله عز وجل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس . فيقضي بين الوحوش والبهائم حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن . فإذا فرغ من ذلك فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله لها : كوني ترابا . فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . ثم يقضي الله تعالى بين العباد فكان أول ما يقضي فيه الدماء ويأتي كل قتيل في سبيل الله ويأمر الله عز وجل كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول يا رب فيم قتلني هذا ؟ فيقول - وهو أعلم - فيم قتلتهم فيقول قتلتهم لتكون العزة لك . فيقول الله له : صدقت . فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس . ثم تمر به الملائكة إلى الجنة . ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه فيقول : يا رب قتلني هذا ؟ فيقول تعالى : وهو أعلم : لم قتلتهم ؟ فيقول : يا رب قتلتهم لتكون العزة لي . فيقول : تعست ، ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء رحمه . ثم يقضي الله تعالى بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء ، فإذا فرغ الله تعالى من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق : ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله . فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم ، ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار ، وهو الذي يقول : ( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) ( الأنبياء : 99 ) فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون جاءهم الله فيما شاء من هيئته فقال : يا أيها الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون . فيقولون : والله والله ما لنا إله إلا الله ، وما كنا نعبد غيره . فيكشف لهم عن ساقه ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان سجدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه ويجعل الله عز وجل أصلابهم [ ص: 805 ] كصياصي البقر . ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة أو كحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان دونه جسر دحض مزلة فيمرون كطرف العين أو كلمح البرق أو كمر الريح أو كجياد الخيل أو كجياد الركاب أو كجياد الرجال فناج سالم وناج مخدوش ومكدوس على وجهه في جهة في جهنم .

      فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام ؟ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا . فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله . فيوتى نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ويقول عليكم بإبراهيم فإن الله تخيره خليلا . فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ويقول عليكم بموسى فإن الله قربه نجيا وكلمه وأنزل عليه التوراة . فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول لست بصاحب ذلك ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم . فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن فأنطلق فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح فيفتح لي فأحيا ويرحب بي فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت له ساجدا فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ثم يقول ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسل تعط . فإذا رفعت رأسي يقول الله تعالى وهو أعلم ما شأنك ؟ فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة . فيقول الله : قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة " .

      وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزوجهم ومساكنهم ، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله عز وجل ، وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما الله تعالى في الدنيا ، فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق ثم إنه يضع [ ص: 806 ] يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبدها له مرآة وكبده لها مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها . فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن لك أزواجا غيرها ، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما أتى واحدة قالت له والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا في الجنة شيء أحب إلي منك .

      وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم فمنهم من تأخذ النار قدميه ولا تجاوز ذلك ، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من تأخذ جسده كله إلا وجهه حرم الله صورته عليها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأقول يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي ، فيقول : أخرجوا من عرفتم ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله تعالى في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع فيقول الله تعالى أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيمانا ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ، ثم يشفع الله تعالى فيقول أخرجوا من وجدتم في قلبه إيمانا ثلثي دينار ، ثم يقول ثلث دينار ، ثم يقول ربع دينار ، ثم يقول قيراطا ، ثم يقول حبة من خردل ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع حتى إن إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله تعالى رجاء أن يشفع له ثم يقول : بقيت وأنا أرحم الراحمين فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره كأنهم حمم فيلقون على نهر يقال له نهر الحيوان فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فما يلي الشمس منها أخيضر وما يلي الظل منها أصيفر ، فينبتون كنبات الطراثيث حتى يكونوا أمثال الذر مكتوب في رقابهم : الجهنميون عتقاء الرحمن يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب ما عملوا خيرا لله قط : فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ثم يقولون ربنا امح عنا هذا [ ص: 807 ] الكتاب فيمحوه الله عز وجل عنهم
      " .

      قال ابن كثير ثم ذكره بطوله ثم قال : هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة وقد اختلف فيه فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه ، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه هو متروك . وقال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء . قال رحمه الله تعالى قلت : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة وأما سياقه فغريب جدا ، ويقال إنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقا واحدا فأنكر عليه بسبب ذلك . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث ، فالله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .

      وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور ؟ فقال : قرن ينفخ فيه " وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر . فقالوا : يا رسول الله ، وما تأمرنا ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .

      [ ص: 808 ] ( غرلا حفاة ) الأغرل الأقلف ، ( حفاة ) غير منتعلين ( كجراد منتشر ) شبهوا بالجراد المنتشر لكثرته ولكونه ليس له وجهة يقصدها بل يختلف ويموج بعضه في بعض وهم كذلك . قال الله تعالى : ( فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ) ( القمر : 6 - 8 ) وقال تعالى : ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) ( المدثر : 8 - 10 ) .

      وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس على ثلاث طرائق : راغبين راهبين واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، ويحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا " .

      وفيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) ( الأنبياء : 104 ) الآية . وأن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصيحابي ، فيقول الله عز وجل إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ ص: 809 ] ( المائدة : 117 - 118 ) قال فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم " .

      وفي رواية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا " وفي أخرى : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر .

      وفيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت عائشة : فقلت يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ! فقال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " . وفي رواية النسائي : " فقالت عائشة : يا رسول الله ، فكيف بالعورات ؟ فقال : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . وروى هو وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا . قال فقالت زوجته : يا رسول الله ، ينظر - أو يرى - بعضنا عورة بعض ؟ قال : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " أو قال : " ما أشغلهم عن النظر " رواه الترمذي بنحوه ، وقال حسن صحيح .

      وروى ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه قال : " سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنت به . قال : إن كان عندي منه علم . قالت : يا نبي الله ، كيف يحشر الرجال ؟ قال : حفاة عراة . قالت : واسوأتاه من يوم القيامة . قال : وعن أي ذلك تسألين ؟ إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون . قالت : أية آية يا نبي الله ؟ قال : ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .

      [ ص: 810 ] وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان . فقلت : يا رسول الله ، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال قد شغل الناس ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " .

      وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال : يا نبي الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال : أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ؟ قال قتادة : بلى وعزة ربنا .

      قلت : وذلك قول الله عز وجل : ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ) ( الإسراء : 97 ) الآيات . فشتان ما بين الفريقين ، وفرقان ما بين الطريقين أولئك يفدون ركبا إلى جنات النعيم ورحمة الرحمن الرحيم وزيارة الرب العظيم ، وهؤلاء يسحبون سحبا إلى نار الجحيم ونكالها الأليم وعذابها المقيم ، ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) ( مريم : 85 - 86 ) قال ابن عباس : وفدا ركبانا . وقال أبو هريرة على الإبل . وقال ابن جريج : على النجائب . وقال الثوري : على الإبل النوق . قال قتادة : إلى الجنة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما يحشرون والله على أرجلهم ، ولكن على نوق رحالها الذهب ونجائب سرجها يواقيت ، إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت .

      [ ص: 811 ] وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن النعمان بن سويد قال : كنا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية : ( نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) ( مريم : 85 ) قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة . ورواه ابن أبي حاتم وزاد : عليها رحائل الذهب وأزمتها الزبرجد .

      ولابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) ( مريم : 85 ) فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين " وذكر الحديث مطولا ، والصحيح وقفه .

      ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) ( مريم : 86 ) أي عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش ، والورد الجماعة يردون الماء ولا يرد أحد الماء إلا بعد عطش . قلت : ولكنهم وردوا لا إلى ماء بل إلى جهنم وجحيمها ومهلها [ ص: 812 ] وحميمها . وفي حديث الشفاعة الطويل " فيقال لهم ماذا تشتهون ؟ فيقولون عطشنا . فيشار لهم إلى نار جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيقال لهم : ألا تردون " الحديث .

      فسبحان الله وبحمده ، الله أكبر ، وكانوا في الدنيا على السواء يرزقون ويسيرون ويذهبون ويجيئون يؤتاها من يحبه الله ومن لا يحب ، فلما جاءهم الموت عرف كل منهم سبيله واتضح له مقيله فلما كانوا في البرزخ خلا كل منهم بعمله وأفضى إلى ما قدم قبل أجله ، فبينما هو كذلك إذ صرخ بهم الصارخ وصاح بهم الصائح فخرجوا من الأجداث مسرعين وإلى الداعي مهطعين هذا على النجائب وهذا على الركائب وهذا على قدميه وهذا على وجهه هؤلاء في النور ينظرون وأولئك في ظلمات لا يبصرون ، هؤلاء إلى الرحمن يفدون وأولئك إلى النار يردون ، هؤلاء حلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا وأولئك غلوا بالسلاسل ، وعلتهم الزبانية بالمقامع يضربون بطونا منهم وظهورا . هؤلاء وقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، وأولئك أعتد الله لهم سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ، هؤلاء عليهم حلل السندس والإستبرق وسائر الألوان وأولئك مقرنون في الأصفاد سرابيلهم من قطران ، هؤلاء إلى زيارة ربهم يركبون وأولئك إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، هؤلاء ينظرون إلى ربهم بكرة وعشيا وأولئك تركوا في جهنم جثيا ، هؤلاء يقول لهم ربهم سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وأولئك يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون ، وما هم بخارجين من النار ، هؤلاء يقررون بذنوبهم فيغفرها لهم رب العالمين وأولئك ينادي بهم على رءوس الأشهاد ، هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين . فحينئذ ظهر الفرقان وافترق الطريقان وامتاز الفريقان وصار الغيب شهادة [ ص: 813 ] والسر علانية والمستور مكشوفا والمخبأ ظاهرا ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ص : 28 ) ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ( الجاثية : 21 ) كم كاس في الدنيا طال يومئذ عريه ، كم طاعم في الدنيا عظم يومئذ جوعه ، كم ريان في الدنيا اشتد يومئذ عطشه ، كم ناعم في الدنيا حق به يومئذ بؤسه ، ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) ( القصص : 83 - 84 ) .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية