الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين - سبحانه - بعد التعجيب من إنكارهم البعث - جهل الإنسان؛ وما هو عليه من الضلال والنسيان؛ إلا من فضله على أبناء نوعه؛ [ ص: 501 ] كما فضل طينته على سائر الطين؛ وختم بآية المشاكلة؛ التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض؛ ومشاكلتها للطباع؛ وبان بذلك أنه - سبحانه وتعالى - قادر على فعل ما يشاء؛ عالم بكل معلوم؛ رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل؛ فقال (تعالى) - عاطفا على "وقالوا أئذا كنا عظاما" -: ويسألونك ؛ أي: تعنتا؛ وامتحانا؛ عن الروح ؛ التي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث؛ ولو كانوا حجارة؛ أو حديدا: ما هي؟ هل هي جسم؛ أم لا؟ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن؛ أم امتزاجه مبتدأ؟ وهل هي قديمة؛ أم حادثة؟ ولما كان ذلك تعنتا؛ مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده؛ أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم؛ بقوله (تعالى): قل الروح ؛ أي: هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية؛ من أمر ربي ؛ أضافها إلى الأمر؛ وهو الإرادة؛ وإن كانت من جملة خلقه؛ تشريفا لها؛ وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره؛ بل هو يبدعها من العدم؛ أو يقال - وهو أحسن -: إن الخلق قسمان: ما كان بتسبيب؛ وتنمية؛ وتطوير؛ وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق؛ والثاني ما كان إخراجا من العدم بلا تسبيب؛ ولا تطوير؛ وهو المعبر عنه بالأمر؛ ومنه هذه الروح المسؤول عنها؛ وكل روح في القرآن؛ وكذا ما هو للحفظ؛ والتدبير؛ [ ص: 502 ] كالأديان؛ والجامع لذلك القيومية؛ كما مضى عن الحرالي؛ عند روح القدس؛ في "البقرة"؛ فأفادت هذه العبارة أنها محدثة؛ وأنها غير مطورة؛ ولا مسببة؛ وهي جسم لطيف؛ سار في البدن؛ كماء الورد في الورد؛ على الصحيح عند أهل السنة؛ وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدبا؛ لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم; ثم أتبعه التنبيه على جهلهم؛ لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك؛ وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي؛ وهو القرآن؛ وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس؛ لقلة علمهم؛ ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم؛ وفيه أسئلة كثيرة جدا لا برهان على أجوبتها؛ منها أنه متحيز؛ أم لا؟ وأنه مغاير للنفس؛ أم لا؟ وهل تبقى بعد الموت؛ أم لا؟ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال؛ ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة؛ وهي موجودة.

                                                                                                                                                                                                                                      فـ "السكنجبين"؛ خاصيته قمع الصفراء؛ وحقيقة تلك الخاصية مجهولة؛ وهي معلومة الوجود؛ وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه؛ ولا قريب منه؛ فقال (تعالى) - دالا على حدوثه بتغيره؛ فإنه يكون في المبدإ جاهلا ثم يحدث له العلم شيئا بعد شيء؛ [ ص: 503 ] وكل متغير حادث -: وما أوتيتم ؛ أي: من أي مؤت كان؛ بعد أن كنتم لا تعلمون شيئا؛ من العلم ؛ أي: مطلق هذه الحقيقة؛ فكيف بالمشكل منها؟! إلا قليلا ؛ ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم؛ لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين؛ فمن أجهل الجهل؛ وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به؛ ويتوقف إثباته على أمور دقيقة؛ ومقدمات صعبة؛ وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين؛ والدنيا؛ مع كونه في غاية الوضوح؛ لكثرة ما قام عليه من الأدلة؛ وله بحضرتكم من الأمثلة؛ والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق؛ فهو ينبهكم على عبثكم؛ نصيحة لكم؛ ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم؛ رفقا بكم؛ ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره؛ والخطاب لليهود؛ والعرب؛ أما العرب فواضح؛ وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب؛ فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله; كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى - عليهما الصلاة والسلام - في العصفور الذي نقر من البحر نقرة؛ أو نقرتين؛ فحيث ورد تعظيم على أحد؛ وتكثيره؛ فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق؛ وحيث ورد تقليله - كما في هذه الآية - فهو من حيث إضافته إلى [ ص: 504 ] علم الله (تعالى)؛ وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض؛ فإنه روي في الصحيح؛ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يمشي مع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في المدينة؛ فسأله اليهود عن الروح؛ فأوحي إليه؛ فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي السيرة الهشامية؛ والدلائل للبيهقي؛ وتفسير البغوي؛ وغيره من التفاسير؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن قريشا أرسلت إلى اليهود؛ قبل الهجرة؛ تسألهم عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأنهم أهل الكتاب الأول؛ وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش؛ فأمروهم أن يسألوه عن الروح؛ وعن قصتي أصحاب الكهف؛ وذي القرنين؛ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "أخبركم بما سألتم عنه غدا"؛ ولم يستثن؛ فانصرفوا عنه؛ فمكث - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة؛ لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا؛ حتى أرجف به أهل مكة؛ وحتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة؛ وروي أيضا أن لبث الوحي كان أربعين ليلة؛ وروي: اثنتي عشرة [ ص: 505 ] ليلة؛ وفي مسند أبي يعلى؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل؛ فقالوا: سلوه عن الروح؛ فسألوه؛ ونزلت: ويسألونك ؛ الآية؛ وليس ذلك وأمثاله - بحمد الله - بمشكل؛ فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول؛ فلما سئل عنه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثانيا لم يجب فيه بالجواب الأول؛ إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه؛ أو خشية أن يكون نسخ؛ أو نحو ذلك لأمر رآه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ فيعيد الله - سبحانه - إنزاله عليه تثبيتا له؛ وإعلاما بأنه هو الجواب؛ وفيه مقنع؛ وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب؛ على صدق النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في أن هذا القرآن من عند الله؛ لا يقدر عليه غيره؛ لأنه لو كان قادرا على الإتيان بشيء منه من عند نفسه؛ أو من عند أحد من الخلق؛ لبذل جهده في ذلك؛ تنزيها لنفسه الشريفة؛ وهمته المنيفة؛ وعرضه الطاهر؛ عن مثل ما خاضوا فيه؛ بسبب إخلاف موعدهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الروح من عالم الأمر؛ الذي هو من سر الملكوت؛ ضمت إلى سورة "الإسراء"؛ الذي هو من أبطن سر الملكوت؛ لاسيما بما علا به من المعراج؛ الذي جعل لغرابته كالرؤيا؛ [ ص: 506 ] وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ؛ ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين؛ لأنهما من عالم الملك؛ وسيأتي بقية الكلام على هذا في سورة "الكهف"؛ إن شاء الله (تعالى).

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية