الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تقدم أنه - سبحانه وتعالى - أعلم بالمهتدي والضال؛ وكان ختم هذه الآية مرشدا إلى أن المعنى: فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة؛ ومن علم منه قابلية للشر أضله؛ عطف [ ص: 516 ] عليه قوله (تعالى): ومن يهد الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛ لأنه لا شريك له؛ بخلق الهداية في قلبه؛ وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره؛ وإلى كثرة الضال بجمعه؛ فقال (تعالى): فهو ؛ أي: لا غيره؛ المهتد ؛ لا يمكن أحدا غيره أن يضله؛ ومن يضلل ؛ فهو الضال؛ لا هادي له؛ وذلك معنى قوله (تعالى): فلن تجد لهم ؛ أي: للضالين؛ أولياء ؛ أي: أنصارا في هذه الدنيا؛ من دونه ؛ يهدونهم؛ ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره؛ ولذلك نفوا أصلا ورأسا؛ لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم؛ وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى; فالآية من الاحتباك: خبر الأول يدل على حذف ضده ثانيا؛ ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان يوم الفصل يوما يظهر فيه لكل أحد؛ في كل حالة؛ من عظمته (تعالى) ما يضمحل معه كل عظمة؛ قال (تعالى): ونحشرهم ؛ بنون العظمة؛ أي: نجمعهم بكره؛ يوم القيامة ؛ أي: الذي هو محط الحكمة؛ على وجوههم ؛ يمشون؛ أو مسحوبين عليها؛ إهانة لهم فيها؛ كما لم يذلوها بالسجود لنا؛ عميا وبكما وصما ؛ كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم؛ ولا نطقهم؛ ولا أسماعهم؛ بل يكون ضررا عليهم؛ لما ينظرون من المعاطب؛ ويسمعون من المصائب؛ وينطقون به من المعايب; قال الرازي؛ في اللوامع: إذ يحشر المرء على ما مات عليه؛ [ ص: 517 ] فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدؤه في الدنيا؛ وتمامه في الآخرة؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر؛ قدم البصر؛ لأنه العمدة في ذلك؛ وثنى بالنطق؛ لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد؛ وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد؛ وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف؛ فللتهويل؛ لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر؛ فإذا أتى بالوصف كان أروع؛ للعلم بأن صاحبه عريق فيه؛ لما تقدم في "براءة"؛ وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة؛ من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع؛ فكأنه قيل: إلى أي مكان يحشرون؟ فقال (تعالى): مأواهم جهنم ؛ تستعر عليهم؛ وتتجهمهم؛ كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده؛ وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه؛ لأنه لا يدرك سوى العذاب؛ للختم على مشاعره؛ فيا طولها من غربة! ويا لها من كربة! فكأنه قيل: هل يفتر عنهم عذابها؟ فقيل: لا؛ بل هم كل ساعة في زيادة؛ لأنها كلما خبت ؛ أي: أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم؛ زدناهم ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ سعيرا ؛ بإعادة الجلود;

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية