الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2019 - مسألة : ولا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات ، تقطع كل رضعة من الأخرى - أو خمس مصات مفترقات كذلك - أو خمس ما بين مصة ورضعة ، تقطع كل واحدة من الأخرى - هذا إذا كانت المصة تغني شيئا من دفع الجوع ، وإلا فليست شيئا ولا تحرم شيئا .

                                                                                                                                                                                          وهذا مكان اختلف فيه السلف - : فروي عن طائفة : أنه لا يحرم إلا عشر رضعات لا أقل من ذلك .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت به إلى أم كلثوم أختها بنت أبي بكر الصديق وهي ترضع فقالت : أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي قال سالم : فأرضعتني ثلاث رضعات ، ثم مرضت أم كلثوم فلم ترضعني ، فلم أكن أدخل على عائشة أم المؤمنين من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشرا من الرضعات .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أنها أخبرته أن حفصة أم [ ص: 190 ] المؤمنين أرسلت عاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها - وهو صغير - ففعلت ، فكان يدخل عليها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : عاصم بن عبد الله بن سعد هذا هو مولى عمر بن الخطاب - : ثنا أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن مفرج أنا أحمد بن فراس أنا محمد بن علي بن يزيد أنا سعيد بن منصور أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة قال : سألت عروة بن الزبير عن الرضاع فقال : كانت عائشة لا ترى شيئا دون عشر رضعات فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          فدل هذا على أنه قول عروة ; لأنه أجاب به الذي استفتاه .

                                                                                                                                                                                          وقد روي أيضا : سبع رضعات - : كما حدثنا أحمد بن قاسم أنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم أنا جدي قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب أنا عبيد الله بن عمر القواريري أنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : إنما يحرم من الرضاع سبع رضعات .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : الأول عنها أصح ، وهذا قد رواه من هو أحفظ من أبي الخليل ، ومن يوسف بن ماهك .

                                                                                                                                                                                          كما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل عروة بن الزبير عن صبي شرب قليلا من لبن امرأة فقال له عروة : كانت عائشة تقول : لا تحرم دون سبع رضعات أو خمس ، وطائفة قالت : بخمس رضعات كما قلنا نحن .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت : لا تحرم دون خمس رضعات معلومات . قال أبو محمد : هذا يخرج على أنها كما كانت تأخذ لنفسها بعشر رضعات ، ولغيرها بخمس رضعات - : أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن أبي عدي عن [ ص: 191 ] حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت قال : لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث -

                                                                                                                                                                                          وهو قول الشافعي ، وأصحابه .

                                                                                                                                                                                          وطائفة قالت : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات - وهو قول سليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          وظن قوم أنه يدخل في هذا القول ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن حرب المولى أنا أبو معاوية الضرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين ، وعبد الله بن الزبير ، قالا جميعا : لا تحرم المصة ولا المصتان .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرضاع ؟ فقال : لا أقول كما يقول ابن عباس ، وابن الزبير ، كانا يقولان : لا تحرم المصة ولا المصتان .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : كل هذا ليس فيه بيان أنهم كانوا يحرمون بالثلاث .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وأخصب الجسم - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب : أرنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد التنوري ، حدثني أبي - يعني عبد الوارث - أنا حسين - هو المعلم - أنا مكحول عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت : ليس بالمصة ولا بالمصتين بأس ، إنما الرضاع ما فتق الأمعاء .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق أنا ابن جريج عن ثور - هو أبو زيد - عن عمرو بن شعيب أن سفيان بن عبد الله كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله : ما يحرم من الرضاع ؟ فكتب إليه أنه لا يحرم منها : الضرار ، والعفافة والملجة .

                                                                                                                                                                                          والضرار - أن ترضع المرأة الولدين كي تحرم بينهما .

                                                                                                                                                                                          والعفافة - الشيء اليسير الذي يبقى في الثدي .

                                                                                                                                                                                          والملجة - اختلاس المرأة ولد غيرها فتلقمه ثديها .

                                                                                                                                                                                          قال ابن جريج : وأخبرني محمد بن عجلان أن عمر بن الخطاب أتى بغلام [ ص: 192 ] وجارية - أرادوا أن يناكحوا بينهما - قد علموا أن امرأة أرضعت أحدهما ؟ فقال لها عمر : كيف أرضعت الآخر ؟ قالت : مررت به وهو يبكي فأرضعته أو قالت : فأمصصته ، فقال عمر : ناكحوا بينهما ، فإنما الرضاعة الخصابة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر ، وابن جريج ، قالا جميعا : أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن الحجاج بن الحجاج الأسلمي : أنه استفتى أبا هريرة ؟ فقال له أبو هريرة : لا يحرم إلا ما فتق الأمعاء - يعني من الرضاع .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال : لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم - وبه يؤخذ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هكذا نص الحديث - : أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي : أن ابن مسعود قال : إنما الرضاع ما أنبت اللحم والعظم ، فبلغ ذلك أبا موسى الأشعري فقال : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : لا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم .

                                                                                                                                                                                          وذهبت طائفة إلى التحريم بما قل أو كثر - ولو بقطرة - صح ذلك عن ابن عمر ، وعن ابن عباس في أحد قوليه - .

                                                                                                                                                                                          وروي عن علي بن أبي طالب ، وابن مسعود منقطعا دونهما .

                                                                                                                                                                                          وعن جابر بن عبد الله كذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                          وصح عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه .

                                                                                                                                                                                          وصح أيضا عن عطاء ، وعروة ، وطاوس .

                                                                                                                                                                                          وروي عن الحسن ، والزهري ، ومكحول ، وقتادة ، وربيعة والقاسم ، وسالم ، وقبيصة بن ذؤيب .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان الثوري .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 193 ] فنظرنا فيما احتج به من ذهب إلى سبع رضعات ، فلم نجد لهذا القول متعلقا ، فسقط .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به من ذهب إلى عشر رضعات فوجدناهم يذكرون ما كتب به إلى أبو المرجى علي بن عبد الله بن زرواز : أنا أبو الحسن محمد بن حمزة الرحبي أنا أبو مسلم الكاتب أنا أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس قال أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : أنا أبي أنا يعقوب بن إبراهيم الزهري أنا أبي - هو إبراهيم بن سعد - عن ابن إسحاق قال : أنا الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين : أن سهلة بنت سهيل أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : إن سالما كان منا حيث علمت كنا نعده ولدا ، وكان يدخل علي ، فلما أنزل الله عز وجل فيه وفي أشباهه : أنكرت وجه أبي حذيفة ، إذ رآه يدخل علي قال : فأرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك كيف شاء ، فإنما هو ابنك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا إسناد صحيح ، إلا أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما - :

                                                                                                                                                                                          أحدهما - أن يكون ابن إسحاق وهم فيه ; لأنه قد روى هذا الخبر عن الزهري من هو أحفظ من ابن إسحاق - وهو ابن جريج - فقال فيه : أرضعيه خمس رضعات - على ما نورده بعد هذا إن شاء عز وجل .

                                                                                                                                                                                          أو يكون محفوظا فتكون رواية ابن إسحاق صحيحة ورواية ابن جريج صحيحة فيكونان خبرين اثنين ، فإذا كان ذلك ، فالعشر الرضعات منسوخات على ما نورد بعد هذا - إن شاء الله تعالى - فسقط هذا الخبر ، إذ لا يخلو ضرورة من أن يكون وهما ، أو منسوخا ، لا بد من أحدهما .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به من حرم بثلاث رضعات لا بأقل فوجدناهم يحتجون بالخبر المشهور من طرق شتى .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 194 ] منها - ما رويناه من طريق مسلم أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحرم المصة ولا المصتان } .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رواه أصحاب شعبة عن شعبة عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحرم المصة ولا المصتان } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ابن أبي مليكة أدرك أم المؤمنين فسمعه منها ، ومن ابن الزبير عنها ، فحدث به كذلك ، وهو الثقة المأمون المشهور .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن بزيع أنا يزيد - هو ابن زريع - أنا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة قال : كتبنا إلى إبراهيم النخعي نسأله عن الرضاع ؟ فكتب : إن أبا الشعثاء المحاربي حدثنا أن عائشة أم المؤمنين حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : { لا تحرم الخطفة ولا الخطفتان } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم النسائي أنا مسلم بن إبراهيم أنا محمد بن دينار أنا هشام بن عروة عن أبيه عن ابن الزبير عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني شعيب بن يوسف النسائي عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة أخبرني أبي عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا تحرم المصة ولا المصتان } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ابن الزبير سمع أباه ، وخالته أم المؤمنين ، فرواه عن كل واحد منهما ، وله أيضا صحبة ، وإلا فليخبرنا المقدم على نصر الباطل ، ودفع الحق ، ومؤثر [ ص: 195 ] رأيه على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يتهم من رواة هذه الأخبار ؟ .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية