الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثامن : زواجه ، وما يتعلق به - صلى الله عليه وسلم -

          والضرب الثاني ما يتفق المدح بكثرته ، والفخر بوفوره ، كالنكاح ، والجاه .

          أما النكاح فمتفق فيه شرعا ، وعادة ، فإنه دليل الكمال ، وصحة الذكورية ، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، والتمادح به سيرة ماضية ، وأما في الشرع فسنة مأثورة ، وقد قال ابن عباس : أفضل هذه الأمة أكثرها نساء يشير إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة . ونهى عن التبتل مع ما فيه من قمع الشهوة ، وغض البصر اللذين نبه عليهما - صلى الله عليه وسلم - بقوله : من كان ذا طول فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج حتى لم يره العلماء مما يقدح في الزهد .

          قال سهل بن عبد الله : قد حببن إلى سيد المرسلين ، فكيف يزهد فيهن ؟ ونحوه لابن عيينة ، وقد كان زهاد الصحابة - رضي الله عنهم - كثيري الزوجات ، والسراري ، كثيري النكاح ، وحكي في ذلك عن علي ، والحسن ، وابن عمر ، وغيرهم غير شيء ، وقد كره غير واحد أن يلقى الله عزبا .

          [ ص: 169 ] فإن قيل : كيف يكون النكاح ، وكثرته من الفضائل ، وهذا يحيى بن زكريا - عليه السلام - قد أثنى الله - تعالى - عليه أنه كان حصورا ، فكيف يثني الله عليه بالعجز عما تعده فضيلة ؟ . وهذا عيسى ابن مريم - عليه السلام - تبتل من النساء ، ولو كان كما قررته لنكح ؟ فاعلم أن ثناء الله - تعالى - على يحيى بأنه حصور ليس كما قال بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ، ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة ، وعيب ، ولا تليق بالأنبياء ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها ، كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهرة في النساء . فقد بان ذلك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ، ثم قمعها ، إما بمجاهدة ، كعيسى - عليه السلام - ، أو بكفاية من الله - تعالى - ، كيحيى - عليه السلام - فضلة زائدة لكونها شاغلة في كثير من الأوقات حاطة إلى الدنيا . ثم هي في حق من أقدر عليها ، وملكها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تشغله عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن ، وقيامه بحقوقهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن ، بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : حبب إلي من دنياكم . فدل على أن حبه لما ذكر من النساء ، والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره ، واستعماله لذلك ليس لدنياه ، بل لآخرته ، للفوائد التي ذكرناها في التزويج ، وللقاء الملائكة في الطيب ، ولأنه أيضا مما يحض على الجماع ، ويعين عليه ، ويحرك أسبابه ، وكان حبه لهاتين الخصلتين لأجل غيره ، وقمع شهوته ، وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدته جبروت مولاه ، ومناجاته ، ولذلك ميز بين الحبين ، وفصل بين الحالين ، فقال : وجعلت قرة عيني في الصلاة فقد ساوى يحيى ، وعيسى في كفاية فتنتهن ، وزاد فضيلة بالقيام بهن ، وكان - صلى الله عليه وسلم - ممن أقدر على القوة في هذا وأعطي الكثير منه ، ولهذا أبيح له من عدد الحرائر ما لم يبح لغيره .

          وقد روينا عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدور على نسائه في الساعة من الليل ، والنهار ، وهن إحدى عشرة .

          [ ص: 170 ] قال أنس : وكنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا . خرجه النسائي ، وروي نحوه عن أبي رافع ، وعن طاوس : أعطي - عليه السلام - قوة أربعين رجلا في الجماع ، ومثله عن صفوان بن سليم ، وقالت سلمى مولاته : طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة على نسائه التسع ، وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى ، وقال : هذا أطيب ، وأطهر .

          وقد قال سليمان - عليه السلام - : [ لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع ، وتسعين ] ، وأنه فعل ذلك . قال ابن عباس : كان في ظهر سليمان ماء مائة رجل أو تسع وتسعين ، وكانت له ثلاثمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية . وحكى النقاش ، وغيره سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، وقد كان لداود - عليه السلام - على زهده ، وأكله من عمل يده تسع ، وتسعون امرأة ، وتمت بزوج أورياء مائة ، وقد نبه على ذلك في الكتاب العزيز بقوله - تعالى - : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة [ ص : 23 ] .

          وفي حديث أنس عنه - عليه السلام - : فضلت على الناس بأربع : بالسخاء ، والشجاعة ، وكثرة الجماع ، وقوة البطش . وأما الجاه فمحمود عند العقلاء عادة .

          [ ص: 171 ] وبقدر جاهه عظمه في القلوب ، وقد قال الله - تعالى - في صفة عيسى - عليه السلام - : وجيها في الدنيا والآخرة [ آل عمران : 45 ] ، لكن آفاته كثيرة ، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة ، فلذلك ذمه من ذمه ، ومدح ضده . وورد في الشرع مدح الخمول ، وذم العلو في الأرض ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد رزق من الحشمة ، والمكانة في القلوب ، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية ، وبعدها ، وهم يكذبونه ، ويؤذون أصحابه ، ويقصدون أذاه في نفسه خفية حتى إذا واجههم أعظموا أمره ، وقضوا حاجته ، وأخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها ، وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته من لم يره ، كما روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق ، فقال : يا مسكينة ، عليك السكينة وفي حديث أبي مسعود أن رجلا قام بين يديه فأرعد ، فقال : هون عليك فإني لست بملك . . الحديث .

          فأما عظم قدره بالنبوة ، وشريف منزلته بالرسالة ، وإنافة رتبته بالاصطفاء ، والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية ، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم ، وعلى معنى هذا الفصل نظمنا هذا القسم بأسره .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية