الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          207 - مسألة : ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك ، وإن طالت المدة في خلال ذلك أو قصرت ، ما لم يحدث في خلال وضوئه ما ينقض الوضوء ، وما لم يحدث في خلال غسله ما ينقض الغسل .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك أن الله عز وجل أمر بالتطهر من الجنابة والحيض ، وبالوضوء من الأحداث ، ولم يشترط عز وجل في ذلك متابعة ، فكيفما أتى به المرء أجزأه ; لأنه قد وقع عليه اسم الأخبار بأنه تطهر ، وبأنه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي سلمة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن عائشة قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا [ ص: 313 ] أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثلاثا ، ثم يأخذ بيمينه فيصب على يساره فيغسل فرجه حتى ينقيه ، ثم يغسل يديه غسلا حسنا ، ثم يمضمض ثلاثا ، ثم يستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ، ويغسل ذراعيه ثلاثا ، ثم يصب على رأسه ثلاثا ثم يغسل جسده غسلا ، فإذا خرج من مغتسله غسل رجليه } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : إذا جاز أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين وضوئه وغسله وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله ، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان ، وهذا قول السلف كما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه بال بالسوق ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي لجنازة حين دخل المسجد ليصلي عليها فمسح على خفيه ثم صلى عليها .

                                                                                                                                                                                          - وروينا عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال : كان أحدهم يغسل رأسه من الجنابة بالسدر ثم يمكث ساعة ثم يغسل سائر جسده ، وإبراهيم تابع أدرك أكابر التابعين وصغار الصحابة رضي الله عنهم ، قال إبراهيم في الرجل تكون له المرأة والجارية فيرافث امرأته بالغسل أنه لا بأس بأن يغسل رأسه ثم يمكث ثم يغسل سائر جسده بعد ولا يغسل رأسه وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إن غسل الجنب رأسه بالسدر أو بالخطمي ثم يجلس حتى يجف رأسه فحسبه ذلك .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ، وقد روي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وطاوس .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : إن طال الأمد ابتدأ الوضوء ، وإن لم يطل بنى على وضوئه ، وقد روينا عن قتادة وابن أبي ليلى وغيرهم نحو هذا .

                                                                                                                                                                                          وحد بعضهم ذلك بالجفوف ، وحد بعضهم ذلك بأن يكون في طلب الماء فيبني أو يترك وضوءه ويبتدئ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما تحديد مالك بالطول فإنه يكلف المنتصر له بيان ما ذلك الطول الذي تجب به شريعة ابتداء الوضوء ، والقصر الذي لا تجب به هذه الشريعة ، فلا سبيل لهم إلى ذلك إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد ، وما كان من الأقوال لا [ ص: 314 ] برهان على صحته فهو باطل ، إذ الشرائع غير واجبة على أحد حتى يوجبها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما من حد ذلك بجفوف الماء فخطأ ظاهر ، لأنه دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل لما ذكرناه ، وأيضا فإن في الصيف في البلاد الحارة لا يتم أحد وضوءه حتى يجف وجهه ، ولا يصح وضوء على هذا . وأما من حد في ذلك بما دام في طلب الماء ، فقول أيضا لا دليل على صحته ، والدعوى لا يعجز عنها أحد ، والعجب أن مالكا يجيز أن يجعل المرء إذا رعف بين أجزاء صلاته مدة وعملا ليس من الصلاة ، ثم يمنع من ذلك في الوضوء .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فإن تعلق بعضهم بخبر رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق بقية عن بحير عن خالد عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة لم يصبها الماء ، فأمره عليه السلام أن يعيد الوضوء والصلاة } فإن هذا خبر لا يصح لأن راويه بقية ، وليس بالقوي ، وفي السند من لا يدري من هو ، وروينا أيضا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمر بن الخطاب وعن أبي سفيان عن جابر عن عمر بن الخطاب : أنه رأى رجلا يصلي وقد ترك من رجله موضع ظفر فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة .

                                                                                                                                                                                          قال علي : أما الرواية عن عمر أيضا فلا تصح ; لأن أبا قلابة لم يدرك عمر ، وأبو سفيان ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وقد جاء أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أحسن من هذا ، رويناه من طريق قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن مضر عن حرملة بن يحيى ثنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه وقد توضأ وترك موضع الظفر لم يصبه الماء ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع فأحسن وضوءك } وعن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن عمر مثل هذا أيضا .

                                                                                                                                                                                          قال علي : لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف فعل عمر هذا ، فقد خالفوا [ ص: 315 ] ههنا صاحبا لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وبيقين يدري كل ذي علم أن مرور الأوقات ليس من الأحداث الناقضة للوضوء ، وقد تناقض مالك في هذا المكان فرأى أن من نسي عضوا من أعضاء وضوئه فإن غسله أجزأه ، ورأى فيمن توضأ ومسح على خفيه وبقي كذلك نهاره ثم خلع خفيه فإن وضوء رجليه عنده قد انتقض وأنه ليس عليه إلا غسل رجليه فقط ، وهذا تبعيض الوضوء الذي منع منه ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية