الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        61 - الحديث الخامس : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد الجمعة ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء . } [ ص: 201 ] وفي لفظ " فأما المغرب والعشاء والجمعة : ففي بيته " . وفي لفظ : أن ابن عمر قال " حدثتني حفصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر . وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها } .

                                        التالي السابق


                                        هذا الحديث : يتعلق بالسنن الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها . ويدل على هذا العدد منها . وفي تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها : معنى لطيف مناسب . أما في التقديم : فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها . فتتكيف النفس من ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة ، والخشوع فيها ، الذي هو روحها . فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة ، وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع . فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السنة . فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه ، لا سيما إذا كثر أو طال . وورود الحالة المنافية لما قبلها قد يمحو أثر الحالة السابقة أو يضعفه . وأما السنن المتأخرة : فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض . فإذا وقع الفرض ناسب أن يكون بعده ما يجبر خللا فيه إن وقع .



                                        وقد اختلفت الأحاديث في أعداد ركعات الرواتب فعلا وقولا . واختلفت مذاهب الفقهاء في الاختيار لتلك الأعداد والرواتب . والمروي عن مالك : أنه لا توقيت في ذلك .

                                        قال ابن القاسم صاحبه : وإنما يوقت في هذا أهل العراق .

                                        والحق - والله أعلم - في هذا الباب - أعني ما ورد فيه أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة - أن كل حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد ، أو هيئة من الهيئات ، أو نافلة من النوافل : يعمل به في استحبابه ثم تختلف مراتب ذلك المستحب . فما كان الدليل دالا على تأكده - إما بملازمته فعلا ، أو بكثرة فعله ، وإما بقوة دلالة اللفظ على تأكد حكمه ، وإما بمعاضدة حديث آخر له ، أو أحاديث فيه - تعلو مرتبته في الاستحباب . وما يقصر عن ذلك [ ص: 202 ] كان بعده في المرتبة ، وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة ، فإن كان حسنا عمل به إن لم يعارضه صحيح أقوى منه . وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة الثانية ، أعني الصحيح الذي لم يدم عليه ، أو لم يؤكد اللفظ في طلبه . وما كان ضعيفا لا يدخل في حيز الموضوع ، فإن أحدث شعارا في الدين : منع منه . وإن لم يحدث فهو محل نظر . يحتمل أن يقال : إنه مستحب لدخوله تحت العمومات المقتضية لفعل الخير ، واستحباب الصلاة . ويحتمل أن يقال : إن هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال والهيئة ، والفعل المخصوص : يحتاج إلى دليل خاص يقتضي استحبابه بخصوصه . وهذا أقرب . والله أعلم . وههنا تنبيهات .

                                        الأولى : أنا حيث قلنا في الحديث الضعيف : إنه يحتمل أن يعمل به لدخوله تحت العمومات ، فشرطه : أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات مثاله : الصلاة المذكورة في أول ليلة جمعة من رجب : لم يصح فيه الحديث ، ولا حسن . فمن أراد فعلها - إدراجا لها تحت العمومات الدالة على فضل الصلاة والتسبيحات - لم يستقم ; لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام " وهذا أخص من العموميات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة .

                                        الثاني : أن هذا الاحتمال الذي قلناه - من جواز إدراجه تحت العمومات - نريد به في الفعل ، لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة ; لأن الحكم باستحبابه على تلك الهيئة الخاصة : يحتاج دليلا شرعيا عليه ولا بد ، بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت ، ولا بتلك الهيئة . فهذا هو الذي قلنا باحتماله .

                                        الثالث : قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين . ومثاله : ما أحدثته الروافض من عيد ثالث ، سموه عيد الغدير . وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء مخصوص ، لم يثبت شرعا . وقريب من ذلك : أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص . فيريد بعض الناس : أن يحدث فيها أمرا آخر لم يرد به الشرع ، زاعما أنه يدرجه تحت عموم . فهذا لا يستقيم ; لأن الغالب على العبادات التعبد ، ومأخذها التوقيف . وهذه الصورة : حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه . فأما إذا دل فهو أقوى في [ ص: 203 ] المنع وأظهر من الأول . ولعل مثال ذلك ، ما ورد في رفع اليدين في القنوت . فإنه قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقا . فقال بعض الفقهاء : يرفع اليد في القنوت ; لأنه دعاء . فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحباب رفع اليد في الدعاء . وقال غيره : يكره ; لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف . والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها . فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت : كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع : أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء .

                                        الرابع : ما ذكرناه من المنع : فتارة يكون منع تحريم ، وتارة منع كراهة . ولعل ذلك يختلف بحسب ما يفهم من نفس الشرع من التشديد في الابتداع بالنسبة إلى ذلك الجنس أو التخفيف . ألا ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا : لم تساو البدع المتعلقة بأمور الأحكام الفرعية . ولعلها - أعني البدع المتعلقة بأمور الدنيا - لا تكره أصلا . بل كثير منها يجزم فيه بعدم الكراهة . وإذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية : لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول العقائد .

                                        فهذا ما أمكن ذكره في هذا الموضوع ، مع كونه من المشكلات القوية ، لعدم الضبط فيه بقوانين تقدم ذكرها للسابقين . وقد تباين الناس في هذا الباب تباينا شديدا ، حتى بلغني : أن بعض المالكية مر في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب - أعني التي في رجب ، أو التي في شعبان - بقوم يصلونها ، وقوم عاكفين على محرم ، أو ما يشبهه ، أو ما يقاربه . فحسن حال العاكفين على المحرم على حال المصلين لتلك الصلاة . وعلل ذلك بأن العاكفين على المحرم عالمون بارتكاب المعصية ، فيرجى لهم الاستغفار والتوبة ، والمصلون لتلك الصلاة - مع امتناعها عنده - معتقدون أنهم في طاعة . فلا يتوبون ولا يستغفرون .

                                        والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه . وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات ، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص . وميل المالكية إلى هذا الثاني . وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال في صلاة [ ص: 204 ] الضحى " إنها بدعة " ; لأنه لم يثبت عنده فيها دليل . ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص . وكذلك قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره " إنه بدعة " ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء . وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة " إياك والحدث " ولم ير إدراجه تحت دليل عام وكذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن قيس بن أبي حازم قال " ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل ، ويقول للناس : قولوا كذا ، وقولوا كذا . فقال : إذا رأيتموه فأخبروني . قال : فأخبروه . فأتاه ابن مسعود متقنعا . فقال : من عرفني فقد عرفني . ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود . تعلمون أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يعني أو إنكم لمتعلقون بذنب ضلالة " وفي رواية " لقد جئتم ببدعة ظلماء ، أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما " فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل ، مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر . على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات .

                                        الخامس : ذكر المصنف حديث ابن عمر في باب صلاة الجماعة . ولا تظهر له مناسبة ، فإن كان أراد : أن قول ابن عمر " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " معناه : أنه اجتمع معه في الصلاة . فليست الدلالة على ذلك قوية . فإن المعية مطلقا أعم من المعية في الصلاة . وإن كان محتملا .

                                        ومما يقتضي أنه لم يرد ذلك : أنه أورد عقيبه حديث عائشة رضي الله عنها : أنها قالت { لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر } وفي لفظ لمسلم : { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } وهذا لا تعلق له بصلاة الجماعة .



                                        62 - الحديث السادس : وهو حديث عائشة رضي الله عنها المقدم الذكر . فيه دليل على تأكد ركعتي الفجر ، وعلو مرتبتهما في الفضيلة . وقد اختلف أصحاب مالك . أعني في قوله " إنهما سنة أو فضيلة " بعد اصطلاحهم على الفرق [ ص: 205 ] بين السنة والفضيلة . وذكر بعض متأخريهم قانونا في ذلك . وهو أن ما واظب صلى الله عليه وسلم عليه ، مظهرا له في جماعة ، فهو سنة . وما لم يواظب عليه ، وعده في نوافل الخير ، فهو فضيلة . وما واظب عليه ، ولم يظهره - وهذا مثل ركعتي الفجر - ففيه قولان :

                                        أحدهما : أنه سنة .

                                        والثاني : أنه فضيلة .

                                        واعلم أن هذا إن كان راجعا إلى الاصطلاح : فالأمر فيه قريب . فإن لكل أحد أن يصطلح في التسميات على وضع يراه . وإن كان راجعا إلى اختلاف في معنى . فقد ثبت في هذا الحديث تأكد أمر ركعتي الفجر بالمواظبة عليهما . ومقتضاه : تأكد استحبابهما . فليقل به . ولا حرج على من يسميها سنة ، وإن أريد : أنهما مع تأكدهما أخفض رتبة مما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مظهرا له في الجماعة ، فلا شك أن رتب الفضائل تختلف .

                                        فإن قال قائل : إنما سمي بالسنة أعلاها رتبة : رجع ذلك إلى الاصطلاح . والله أعلم . .




                                        الخدمات العلمية