الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما

شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا . وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه ، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب الماثل للقرآن وما عقب ذلك . ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون . ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت شمشون إلى قيام شاول حمي داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند [ ص: 115 ] ولم يكن نبيئا ، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل صمويل .

فداود أول من جمعت له النبوءة والملك في أنبياء بني إسرائيل . وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداد . وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة ، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام .

وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتهما مثل . وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف ؛ سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم .

وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون ( داود ) عطفا على ( نوحا ) في قوله ( ونوحا ) ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان . . . إلى آخره ، فـ ( إذ يحكمان ) متعلق بـ ( آتينا ) المحذوف ، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعملهما .

والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة . والعلم : أصالة الفهم . ( وإذ نفشت ) متعلق بـ ( يحكمان ) .

فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء ، والجمع بين المصالح والتفاصيل بين مراتب الاجتهاد ، [ ص: 116 ] واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق . فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل .

وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس ، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء . فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم ، والآخر راعي غنم لجماعة ، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث ، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقص أمرهما على سليمان ، فقال : لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا . فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له : بماذا كنت تقضي ؟ قال : إني رأيت ما هو أرفق بالجميع . قال : وما هو ؟ قال : أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه ، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له . فقال داود : وفقت يا بني . وقضى بينهما بذلك .

فمعنى نفشت فيه دخلته ليلا ، قالوا : والنفش الانفلات للرعي ليلا . وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى غنم القوم . وكذلك كان الحرث شركة بين أناس . كما يؤخذ مما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم . وهو ظاهر تقرير الكشاف . وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث .

[ ص: 117 ] واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله وكنا لحكمهم شاهدين أي عالمين وقوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد ، إذ إن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان ، فذلك من القضاء بالاجتهاد ، وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبيئنا - صلى الله عليه وسلم - ووقوعه في مختلف المسائل .

وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم ، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا . وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي .

وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين ، فهو يشبه الصلح . ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب ، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف ، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب . ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من ( العريض ) على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع ؟ فقال محمد : لا والله ، فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك ، ففعل الضحاك . وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما ، فكان قضاء سليمان أرجح .

وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرة إذ قضى أول مرة بأن [ ص: 118 ] يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره ، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ، فاستوفى للزبير حقه . وإنما ابتدأ النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضي بينهما بالفصل ، فكان قضاء النبيء مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان .

فمعنى قوله تعالى ففهمناها سليمان أنه ألهمه وجها آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق . وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان . وحسبك أنه الموافق لقضاء النبيء في قضية الزبير . وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة .

وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما في معرض الثناء عليهما .

وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه ، كما قال ابن عطية وابن العربي ; إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة . وإضافة ( حكم ) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين . وتأنيث الضمير في قوله ( ففهمناها ) ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى ( لحكمهم ) بمعنى الحكومة أو الخصومة . [ ص: 119 ] وجملة وكلا آتينا حكما وعلما تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب .

وتقدمت ترجمة داود - عليه السلام - عند قوله تعالى وآتينا داود زبورا في سورة النساء ، وقوله تعالى ومن ذريته داود في سورة الأنعام .

وتقدمت ترجمة سليمان - عليه السلام - عند قوله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية