الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين

جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدعى بعثها قد انتابها الفناء العظيم ( قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد ) . [ ص: 158 ] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى لهم فيها زفير وقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية . وقد رتب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة . وأصل الجملة : نعيد الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا . فحول النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه ، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء . وقدم كما بدأنا أول خلق وهو حال من الضمير المنصوب في ( نعيده ) للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكن . وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث ، فليس قوله يوم نطوي السماء متعلقا بما قبله من قوله تعالى وتتلقاهم الملائكة . وعقب ذلك بما يفيد تحقيق حصول البعث من كونه وعدا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب ، فعدي بحرف ( على ) في قوله تعالى وعدا علينا ؛ أي حقا واجبا . وجملة إنا كنا فاعلين مؤكدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله . والمراد بقوله ( فاعلين ) أنه الفاعل لما وعد به ، أي القادر . والمعنى : إنا كنا قادرين على ذلك . وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله كما بدأنا أول خلق نعيده .

[ ص: 159 ] والطي : رد بعض أجزاء الجسم اللين المطلوق على بعضه الآخر ، وضده النشر .

والسجل : بكسر السين وكسر الجيم هنا ، وفيه لغات . يطلق على الورقة التي يكتب فيها ، ويطلق على كاتب الصحيفة ، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف ، أي : صاحب السجل ، وقيل : سجل : اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها . ولا يحسن حمله هنا على معنى الصحيفة ؛ لأنه لا يلائم إضافة الطي إليه ولا يرادفه لقوله ( للكتاب ) أو ( للكتب ) ، ولا حمله على معنى الملك الموكل بصحائف الأعمال ؛ لأنه لم يكن مشهورا فكيف يشبه بفعله . فالوجه : أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ، وذلك عمل معروف . فالتشبيه بعمله رشيق .

وقرأ الجمهور ( للكتاب ) بصيغة الإفراد . وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف ( للكتب ) بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع . ولما كان تعريف السجل وتعريف الكتاب تعريف جنس استوى في المعرف الإفراد والجمع . فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة ، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السجل مفردا ففيها حسن التفنن بالتضاد . ورسمها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يحذف في مثله . واللام في قوله ( للكتاب ) لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول ( طي ) .

ومعنى طي السماء تغيير أجرامها من موقع إلى موقع أو اقتراب بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليكتب [ ص: 160 ] الكاتب في إحدى صفحتيها . وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي ، وهو انقراض له أحوال كثيرة وصف بعضها في سور من القرآن .

وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها ، وفي سورة الزمر والسماوات مطويات بيمينه . ومسألة دثور السماوات ( أي اضمحلالها ) فرضها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر أنكسمائس الملطي وفيثاغورس وأفلاطون .

وقرأ الجمهور ( نطوي ) بنون العظمة وكسر الواو ونصب ( السماء ) . وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيا للنائب وبرفع ( السماء ) .

والبدء : الفعل الذي لم يسبق مماثله بالنسبة إلى فاعل أو إلى زمان أو نحو ذلك . وبدء الخلق كونه لم يكن قبل ، أي كما جعلنا خلقا مبدوءا غير مسبوق في نوعه .

وخلق : مصدر بمعنى المفعول .

ومعنى إعادة الخلق إعادة مماثله في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى سنعيدها سيرتها الأولى أي مثل سيرتها في جنسها ، أي في أنها عصا من العصي . وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى كما بدأنا أول خلق نعيده أن إعادة خلق الأجسام شبهت بابتداء خلقها . ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام ، [ ص: 161 ] على أن التشبيه صالح للماثلة في غير ذلك . روى مسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين الحديث . فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق . وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا .

وانتصب ( وعدا ) على أنه مفعول مطلق لـ ( نعيده ) لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة . ويجوز كونه مفعولا مطلقا مؤكدا لمضمون جملة كما بدأنا أول خلق نعيده .

التالي السابق


الخدمات العلمية