الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين

إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في سورة الزمر وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا إلى قوله تعالى وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة . ولها ارتباط بقوله تعالى أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها . وإن كان المراد أرضا من الدنيا ، أي مصيرها بيد عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى ، وهي أرض مكة وما حولها ، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى [ ص: 162 ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح . وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين . وفي حديث أبي داود والترمذي عن ثوبان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها .

وقرأ الجمهور ( في الزبور ) بصيغة الإفراد وهو اسم المزبور ، أي المكتوب ، فعول معنى مفعول ، مثل : ناقة حلوب وركوب . وقرأ حمزة بصيغة الجمع ؛ زبور بوزن فعول ؛ جمع زبر بكسر فسكون أي مزبور ، فوزنه مثل قشر وقشور ، أي في الكتب . فعلى قراءة الجمهور فهو غالب في الإطلاق على كتاب داود قال تعالى وآتينا داود زبورا في سورة النساء وفي سورة الإسراء ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عام للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله . وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى - عليه السلام - ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ) فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل .

والزبور : كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود . ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير . ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب " فويدو " أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا ( صديقين يرشون أرص ) بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرص ، أي الصديقون يرثون الأرض . والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة ، وذلك قبل أن [ ص: 163 ] يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في سورة النور في قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم .

وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر لفرق من العباد الصالحين . ومعنى ( من بعد الذكر ) أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة . فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض . وقيل المراد بـ ( الذكر ) كتاب الشريعة وهو التوراة . قال تعالى ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين فيكون الظرف في قوله تعالى ( من بعد الذكر ) مستقرا في موضع الحال من الزبور . والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة . وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود ، فإن ملك داود أحد مظاهره . بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض ببركة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم آنفا . وجملة إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه . فإنه لم يأت بعد داود قوم مؤمنون ورثوا الأرض ، فما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بلغ البلاغ إليهم . [ ص: 164 ] فالإشارة بقوله تعالى ( إن في هذا ) إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلغ في القرآن .

والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ ( قوم ) المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون في آخر سورة يونس . فكأنه يقول : فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله . والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم ، والموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم .

والعبادة : الوقوف عند حدود الشريعة . قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم ، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف . وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية