الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] القول في تأويل قوله : ( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ( 155 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا ، أي : بعبادة من عبد العجل؟ قالوا : وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل . وقال موسى ما قال ، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك .

ذكر من قال ذلك :

15168 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل! فذلك حين يقول موسى : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " .

وقال آخرون : معنى ذلك : إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم ، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل ، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي و"السفهاء" على هذا القول ، كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم .

ذكر من قال ذلك :

15169 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا ، قام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب [ ص: 150 ] إليه ، يقول : " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " ، قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ أي : إن هذا لهم هلاك ، قد اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد! فما الذي يصدقونني به ، أو يأمنونني عليه بعد هذا؟

وقال آخرون في ذلك بما : -

15170 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ، ولا استبدل بك غيرك؟

قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله : " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، وأنه إنما عنى ب"السفهاء" عبدة العجل . وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم ، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها .

قال : فإن قال قائل : فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم ، فيقول : أتهلكنا بذنوب من عبد العجل ، ونحن من ذلك برآء؟ قيل : جائز أن يكون معنى "الإهلاك" قبض الأرواح على غير وجه العقوبة ، كما قال جل ثناؤه : ( إن امرؤ هلك ) ، [ سورة النساء : 176 ] يعني : مات فيقول : أتميتنا بما فعل السفهاء منا؟ [ ص: 151 ]

وأما قوله : " إن هي إلا فتنتك " ، فإنه يقول جل ثناؤه : ما هذه الفعلة التي فعلها قومي ، من عبادتهم ما عبدوا دونك ، إلا فتنة منك أصابتهم ويعني ب"الفتنة" ، الابتلاء والاختبار يقول : ابتليتهم بها ، ليتبين الذي يضل عن الحق بعبادته إياه ، والذي يهتدي بترك عبادته . وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله ، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جل ثناؤه .

وبنحو ما قلنا في "الفتنة" قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15171 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبى ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( إن هي إلا فتنتك " ، ) قال : بليتك .

15172 - . . . . قال ، حدثنا حبويه الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : "إلا فتنتك" ، : إلا بليتك .

15173 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : " إن هي إلا فتنتك " ، قال : بليتك .

15174 - . . . . قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء " ، إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء ، وتصرفه عمن تشاء . [ ص: 152 ]

15175 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إن هي إلا فتنتك " ، أنت فتنتهم .

وقوله : " أنت ولينا " ، يقول : أنت ناصرنا . "فاغفر لنا" ، يقول : فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها "وارحمنا" ، تعطف علينا برحمتك " وأنت خير الغافرين " ، يقول : خير من صفح عن جرم ، وستر على ذنب .

التالي السابق


الخدمات العلمية