الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2616 ) مسألة : قال : ( والمرأة إذا دخلت متمتعة ، فحاضت ، فخشيت فوات الحج ، أهلت بالحج ، وكانت قارنة ، ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ) وجملة ذلك أن المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة ، لم يكن لها أن تطوف بالبيت ; لأن الطواف بالبيت صلاة ، ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ، ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت . فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها ، وتصير قارنة .

                                                                                                                                            وهذا قول مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وكثير من أهل العلم . وقال أبو حنيفة : ترفض العمرة ، وتهل بالحج . قال أحمد : قال أبو حنيفة قد رفضت العمرة فصار حجا ، وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة . واحتج بما روى عروة ، عن عائشة ، قالت : { أهللنا بعمرة ، فقدمت مكة وأنا حائض ، لم أطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة . قالت : ففعلت . فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت معه . فقال : هذه عمرة مكان عمرتك } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها ، وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة ; أحدها ، قوله : " دعي عمرتك " . والثاني ، قوله : " وامتشطي " . والثالث ، قوله : " هذه عمرة مكان عمرتك " . ولنا ، ما روى { جابر ، قال : أقبلت عائشة بعمرة ، حتى إذا كانت بسرف عركت ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ، فوجدها تبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت ، وقد حل الناس ، ولم أحل ، ولم أطف بالبيت ، والناس يذهبون إلى الحج الآن . فقال : إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج ففعلت ، ووقفت المواقف ، حتى إذا طهرت ، طافت بالكعبة ، وبالصفا والمروة . ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك . قالت : يا رسول الله ، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن ، فأعمرها من التنعيم . }

                                                                                                                                            وروى طاوس ، عن عائشة ، { أنها قالت : أهللت بعمرة ، فقدمت ولم أطف حتى حضت ، ونسكت المناسك كلها ، وقد أهللت بالحج . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر : يسعك طوافك لحجك وعمرتك . فأبت ، فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأعمرها من التنعيم } . رواهما مسلم . وهما يدلان على ما [ ص: 252 ] ذكرنا جميعه ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات ، فمع خشية الفوات أولى .

                                                                                                                                            قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج ، ما لم يفتتح الطواف بالبيت . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع ، أن يهل بالحج مع العمرة ، ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها ; لقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } . ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر ، فلم يجز رفضها ، كغير الحائض . فأما حديث عروة ، فإن قوله : " انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة " . انفرد به عروة ، وخالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت ، وقد روي عن طاوس ، والقاسم ، والأسود ، وعمرة وعائشة ، ولم يذكروا ذلك . وحديث جابر ، وطاوس مخالفان لهذه الزيادة .

                                                                                                                                            وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، حديث حيضها ، فقال فيه : حدثني غير واحد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي العمرة ، وانقضي رأسك ، وامتشطي " . وذكر تمام الحديث .

                                                                                                                                            وهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة ، وهو مع ما ذكرنا من مخالفته بقية الرواة ، يدل على الوهم ، مع مخالفتها الكتاب والأصول ، إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها ، ويحتمل أن قوله : " دعي العمرة " . أي دعيها بحالها ، وأهلي بالحج معها ، أو دعي أفعال العمرة ، فإنها تدخل في أفعال الحج .

                                                                                                                                            وأما إعمارها من التنعيم ، فلم يأمرها به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : " فاذهب بها يا عبد الرحمن ، فأعمرها من التنعيم " . وروى الأثرم ، بإسناده عن الأسود ، عن عائشة ، قلت : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت ، إنما هي مثل نفقتها . قال أحمد : إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ، فقال : " يا عبد الرحمن ، أعمرها " . فنظر إلى أدنى الحرم ، فأعمرها منه .

                                                                                                                                            وقول الخرقي : " ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم " . وذلك لأن طواف القدوم سنة لا يجب قضاؤها ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بقضائه ، ولا فعلته هي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية