الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 850 ] فصل فيما جاء في الصراط


      وينصب الجسر بلا امتراء كما أتى في محكم الأنباء     يجوزه الناس على أحوال
      بقدر كسبهم من الأعمال     فبين مجتاز إلى الجنان
      ومسرف يكب في النيران



      ( وينصب الجسر ) وهو الصراط على متن جهنم ( بلا امتراء ) بلا شك ( كما أتى في محكم الأنباء ) من الآيات والأحاديث ( يجوزه ) يمر عليه الناس ( على أحوال ) متفاوتة ( بقدر كسبهم ) في الحياة الدنيا ( من الأعمال ) من إحسان أو إساءة أو تخليط ، ( ف ) هم ( بين مجتاز ) عليه ( إلى الجنان ) وهم المؤمنون على تفاوت درجاتهم ومراتبهم في البطء والإسراع ( ومسرف ) على نفسه ( يكب في النيران ) فلا ينجو ، ومنهم من تلفحه وتمسه النار بقدر ذنبه ثم يخرج منها قال الله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) ( مريم : 71 ) وقال تعالى : ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ) ( الحديد : 12 - 15 ) .

      وروى الإمام أحمد عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ينجي الله [ ص: 851 ] الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، فقال : يردونها جميعا .

      وقال سليمان بن مرة : يدخلونها جميعا ، وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا
      " .

      وروى الحسن بن عرفة عن خالد بن معدان قال : قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة : ألم يعدنا ربنا الورود على النار ؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة .

      وروى عبد الرزاق عن قيس بن حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك ؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت ، قال إني ذكرت قول الله عز وجل : ( وإن منكم إلا واردها ) فلا أدري أأنجو منها أم لا .

      وله عن ابن عباس في قصة مخاصمته نافع بن الأزرق ، فقال ابن عباس : الورود الدخول ، فقال نافع لا . فقرأ ابن عباس : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ( الأنبياء : 98 ) أوردوها أم لا ؟ وقال : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) ( هود : 98 ) أوردوها أم لا ؟ أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر هل نخرج منها أم لا ، وما أرى الله تعالى مخرجك منها بتكذيبك ، فضحك نافع .

      وروى ابن جرير عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو [ ص: 852 ] راشد وهو نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس ، أرأيت قول الله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) ( مريم : 71 ) قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها ، فانظر هل نصدر عنها أم لا . وعنه رضي الله عنه في ( وإن منكم إلا واردها ) ( مريم : 71 ) قال : البر والفاجر ، ألا تسمع إلى قول الله تعالى لفرعون : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) ( هود : 98 ) الآية . ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) ( مريم : 86 ) فسمى الورود على النار دخولا وليس بصادر .

      وروى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( وإن منكم إلا واردها ) ( مريم : 71 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم " ورواه الترمذي هكذا مرفوعا ، وقد رواه ابن أبي حاتم عنه موقوفا قال : " يرد الناس جميعا الصراط ، ورودهم قيامهم حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم : فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل ، حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط ، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس " الحديث .

      وروى ابن جرير عنه في ( وإن منكم إلا واردها ) ( مريم : 71 ) قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة [ ص: 853 ] كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثم يمرون والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم .

      وقال قتادة : قوله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها ) ( مريم : 71 ) قال : هو الممر عليها ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها ، وورود المشركين أن يدخلوها .

      وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم " . قال الزهري : كأنه يريد هذه الآية : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) ( مريم : 71 ) قال ابن مسعود : قسما واجبا . وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا مرفوعا من حديثه الطويل في الرؤية والشفاعة وفيه : " ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم . وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان ؟ قالوا نعم يا رسول الله ، قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم الموبق بعمله والموثق بعمله ، ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه " الحديث .

      وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من حديثه الطويل في ذلك مرفوعا وفيه " ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم . قلنا يا رسول الله ، وما الجسر ؟ قال مدحضة مزلة ، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها [ ص: 854 ] شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان ، يمر المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا " الحديث .

      ولمسلم عن أنس عن ابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة - فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين " الحديث . وفي رواية عن ابن مسعود " رجل يخرج من النار حبوا " .

      وفيه عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما في حديث استفتاح الجنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مطولا . وفيه : " وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق ، قال قلت : بأبي أنت وأمي ، أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ، ثم كمر الطير ، وتشد الرجال تجري بهم أعمالهم ، قال : ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحافا . قال : وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ومكدوس في النار . والذي نفس أبي هريرة بيده إن جهنم لسبعون خريفا " . وفيه أيضا في بعض طرق حديث أبي سعيد المتقدم قال أبو سعيد : بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف " . وفيه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود الحديث . وفيه رؤية الله تعالى " فيتجلى لهم يضحك ، قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطي كل إنسان - منافق [ ص: 855 ] أو مؤمن - نورا ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ، ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون " وذكر الحديث .

      وقال عبد الله بن مسعود في قول الله تعالى : ( يسعى نورهم بين أيديهم ) ( الحديد : 12 ) " قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

      وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه " .

      وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا ، فإذا استووا على الصراط سلب الله تعالى نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقال المؤمنون : ربنا أتمم لنا نورنا ، فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا " .

      قلت : وذلك من تأويل قول الله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) [ ص: 856 ] ( الحديد : 8 ) وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم . فقال له رجل يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك ؟ فقال أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم " وقال الضحاك : ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا . وقال الحسن رحمه الله ( يسعى نورهم بين أيديهم ) ( الحديد : 12 ) قال : على الصراط اهـ .

      وقد أنكر الصراط والمرور عليه أهل البدعة والهوى من الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، وتأولوا الورود برؤية النار لا أنه الدخول والمرور على ظهرها ، وذلك لاعتقادهم أن من دخل النار لا يخرج منها ولو بالإصرار على صغيرة ، فخالفوا الكتاب والسنة والجماعة وردوا الآيات والأحاديث الواردة في الورود والمقام المحمود والشفاعة ، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق مارى ابن عباس رضي الله عنهما في الورود فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الدخول ، وقال نافع : ليس الورود الدخول ، فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ( الأنبياء : 98 ) أدخلها هؤلاء أم لا ؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنت وأنا سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله عز وجل أن يخرجك منها بتكذيبك " .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية