الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 217 ] ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه يقولون لإخوانهم في الدين، لأنهم كفار مثلهم، وهم اليهود لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أي: في خذلانكم أحدا أبدا فكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: والله يشهد إنهم لكاذبون ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكره الله تعالى، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى ولئن نصروهم لئن قدر وجود نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده . وقوله تعالى: ثم لا ينصرون يعني: بني النضير .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لأنتم أشد يعني: المؤمنين أشد رهبة في صدورهم وفيهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 218 ] أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل . والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لا يقاتلونكم جميعا فيهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: اليهود والمنافقون، قاله أبو سليمان الدمشقي . والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون متحصنين في قرى محصنة أو من وراء جدر وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان "جدار" بألف . وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي "جدر" بضم الجيم والدال . وقرأ أبو بكر الصديق، وابن أبي عبلة "جدر" بفتح الجيم والدال جميعا، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري "جدر" بفتح الجيم وسكون الدال . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر "جدر" بضم الجيم وإسكان الدال بأسهم بينهم شديد فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: تحسبهم جميعا فيهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: بنو النضير، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقلوبهم شتى قال الزجاج: أي: هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ذلك يعني: ذلك الاختلاف بأنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم . ثم ضرب لليهود مثلا، فقال تعالى: كمثل الذين من قبلهم قريبا وفيه ثلاثة أقوال . [ ص: 219 ] أحدها: بنو قينقاع، وكانوا وادعوا رسول الله، ثم غدروا، فحصروهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذرية . فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع فيما فعل بهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد . والمعنى: مثل هؤلاء اليهود كمثل المشركين الذين كانوا من قبلهم قريبا، وذلك لقرب غزاة بني النضير من غزاة بدر . والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مثل بني النضير كبني قريظة ذاقوا وبال أمرهم بأن قتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وهؤلاء أجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم في الآخرة . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال تعالى: كمثل الشيطان والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وفيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه مثل ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه مثل ضربه الله لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته .

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر أهل التفسير أن عابدا من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوما مردة الشياطين، فقال: ألا أحد منكم يكفيني برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرهبان، وأتى صومعته، فناداه فلم [ ص: 220 ] يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطلع فرآه منتصبا يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يقبل إليه برصيصا أربعين يوما، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده، قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعد إليه، فأقام معه حولا لا يفطر إلا كل أربعين يوما، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا ، وكره مفارقته، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة، فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنيه، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، فقالوا له: دلنا، قال: انطلقوا إلى برصيصا العابد، فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه، فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنهم الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا ، فيعافون، فلما طال ذلك [ ص: 221 ] عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك بني إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم . فقال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تدعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا، ومن هو؟ قال: برصيصا ، قالوا: فكيف لنا أن يقبلها منا، وهو أعظم شأنا من ذلك؟! قال: إن قبلها، والا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا إليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده . وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال: له انزل إليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنا وجمالا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف إليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدقوه، وانصرفوا . وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعت إليكم، فتفرقوا ينظرون لها أثرا، فلما أمسوا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، و برصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال [ ص: 222 ] الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا ، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيوا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدو الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم قادوه إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بقتله وصلبه، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، ويحك ما اتقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحييت من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مت على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحد من نظرائك، قال: فكيف أصنع قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك، وآخذ بأعينهم، وأخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت إني بريء منك ثم قتل . فضرب الله هذا المثل لليهود حين غرهم المنافقون، ثم أسلموهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 223 ] قوله تعالى: إني أخاف الله ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء "إني" وأسكنها الباقون . وقد بينا المعنى في [الأنفال: 48] فكان عاقبتهما يعني: الشيطان وذلك الكافر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية