الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل - على قساوته وصلابته تمييزا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقق من خشية الله، وخوفا أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن . و"الخاشع": المتطأطئ الخاضع، و"المتصدع": المتشقق . وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل، ويدلك على هذا المثل قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو قال الزجاج: قوله [ ص: 225 ] تعالى: هو الله رد على قوله تعالى: في أول السورة: سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم

                                                                                                                                                                                                                                      فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر "الله"، و"الرحمن"، و"الرحيم" في [الفاتحة] وذكرنا معنى عالم الغيب والشهادة في [الأنعام: 73] . و الملك في سورة [المؤمنين: 116] .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "القدوس" فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف . قال أبو سليمان الخطابي: "القدوس": الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد والأولاد . و"القدس": الطهارة . ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب . وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا . والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فعول بضم الفاء إلا "قدوس" و"سبوح" وقد يقال أيضا: قدوس، وسبوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سفود، وكلوب .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "السلام" فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء . وقال الخطابي: معناه: ذو السلام . والسلام في صفة الله سبحانه: هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين . قال وقد قيل هو الذي سلم الخلق من ظلمه .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "المؤمن"، ففيه ستة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه، قاله ابن عباس، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه المجير، قاله القرظي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 226 ] والثالث: الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه الذي وحد نفسه، لقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران: 18] ذكره الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده، قاله ابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يخيب آمالهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي" حكاه الخطابي .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "المهيمن" ففيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي . قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: ومهيمنا عليه [المائدة: 48]، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة . ولم يأت مفيعل في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف "مسيطر" و"مبيطر" و"مهيمن" وقد ذكرنا في سورة [الطور: 37] عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: المصدق فيما أخبر، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل . قال الخطابي وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء; والرعاية له، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 227 ] يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم . وقد زدنا هذا شرحا في [المائدة: 48] وبينا معنى "العزيز" في [البقرة: 129] .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "الجبار" ففيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي . وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء . وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه . يقال: جبره السلطان، وأجبره .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما "المتكبر" ففيه خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 228 ] والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي . قال: والتاء في "المتكبر" تاء التفرد، والتخصص، لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل . وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "الخالق" فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق: كقول زهير:


                                                                                                                                                                                                                                      ولأنت تفري ما خلقت وبع     ض القوم يخلق ثم لا يفري



                                                                                                                                                                                                                                      يقول: إذا قدرت شيئا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنى ما لا يبلغه . و"البارئ" الخالق . يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم . و"المصور": [ ص: 229 ] الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها . ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل . وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع "البارئ المصور" بفتح الواو والراء جميعا، يعني: آدم عليه السلام . وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأعراف: 180،والإسراء: 110] إلى آخر السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية