الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ( 171 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر ، يا محمد ، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل ، كأنه ظلة غمام من الظلال وقلنا لهم : " خذوا ما آتيناكم بقوة " ، من فرائضنا ، وألزمناكم من أحكام كتابنا ، فاقبلوه ، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه ، من غير تقصير ولا توان " واذكروا ما فيه " ، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه " لعلكم تتقون " ، يقول : كي تتقوا ربكم ، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

15331 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " ، فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوة " ، يقول : من العمل بالكتاب ، وإلا خر عليكم [ ص: 218 ] الجبل فأهلككم! فقالوا : بل نأخذ ما آتانا الله بقوة! ثم نكثوا بعد ذلك .

15332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " ، فهو قوله : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) ، [ سورة النساء : 154 ] ، فقال : " خذوا ما آتيناكم بقوة " ، وإلا أرسلته عليكم .

15333 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عامر ، عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء سجدت اليهود على حرف وجوههم : لما رفع الجبل فوقهم سجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم . قال : فكانت سجدة رضيها الله ، فاتخذوها سنة .

15334 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله .

15335 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " ، أي : بجد " واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " ، جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رءوسهم ، فقال : لتأخذن أمري ، أو لأرمينكم به!

15336 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال مجاهد : " وإذ نتقنا الجبل " ، قال : كما تنتق الزبدة [ ص: 219 ] قال ابن جريج : كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها " خذوا ما آتيناكم بقوة " ، قال : يقول : لتؤمنن بالتوراة ولتقبلنها ، أو ليقعن عليكم .

15337 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : هذا كتاب الله ، أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم! قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة ، قبلناها! قال : اقبلوها بما فيها! قالوا : لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء ، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي؟ "لإن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل" . قال : فحدثني الحسن البصري ، قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرقا من أن يسقط عليه ، فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة . قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ، ونفض لها رأسه .

قال أبو جعفر : واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله : "نتقنا" .

فقال بعض البصريين معنى "نتقنا" ، رفعنا ، واستشهد بقول العجاج :


ينتق أقتاد الشليل نتقا

[ ص: 220 ]

وقال : يعني بقوله : "ينتق" ، يرفعها عن ظهره ، وبقول الآخر :


ونتقوا أحلامنا الأثاقلا



وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر : وهو أن أصل "النتق" و"النتوق" ، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به ، يقال منه : "نتقت نتقا" . قال : ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [ الولد ] : "ناتق" ، لأنها ترمي بأولادها رميا ، واستشهد ببيت النابغة :


لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم     دحقت عليك بناتق مذكار

[ ص: 221 ]

وقال آخر : معناه في هذا الموضع : رفعناه . وقال : قالوا : "نتقني السير" : حركني . وقال : قالوا : "ما نتق برجله لا يركض" ، و"النتق" : نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتعبه حتى يربو ، فذلك "النتق" و"النتوق" ، و"نتقتني الدابة" ، و"نتقت المرأة تنتق نتوقا" : كثر ولدها .

وقال بعض الكوفيين : " نتقنا الجبل " ، علقنا الجبل فوقهم فرفعناه ، ننتقه نتقا ، و"امرأة منتاق" ، كثيرة الولد : قال : وسمعت "أخذ الجراب ، فنتق ما فيه" ، إذا نثر ما فيه . [ ص: 222 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية