الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ] فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله ، وإلى نصرة دينه ، فردوا عليه ذلك ، ولم يقبلوه منه ، فرجع إلى مكة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تناله منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى ، فخرج إليهم وحده ، فحدثني يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على [ ص: 338 ] الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه ، فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . وقال الآخر : أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا; لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : " إن فعلتم ما فعلتم ، فاكتموا علي " . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف - وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما ذكر لي ، المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : " ماذا لقينا من أحمائك! " . فلما اطمأن ، قال - فيما ذكر لي - : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا [ ص: 339 ] والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " . هكذا أورد ابن إسحاق في كتابه " السيرة " هذا الدعاء من غير إسناد ، بل ذكره معلقا بصيغة البلاغ ، فقال : فيما ذكر لي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي الحافظ ابن عساكر ، في ترجمة القاسم بن الليث الرسعني ، شيخ النسائي والطبراني وغير واحد ، بسنده من حديثه ، حدثني محمد بن أبي صفوان الثقفي ، حدثنا وهب بن جرير بن حازم ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما توفي أبو طالب ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشيا على قدميه . قال : فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، فانصرف إلى ظل شجرة فصلى ركعتين ، ثم قال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أرحم الراحمين ، أنت أرحم بي ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي ، تحركت له [ ص: 340 ] رحمهما ، فدعوا غلاما نصرانيا يقال له : عداس . فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه ، قال : " بسم الله " ، ثم أكل ، فنظر عداس في وجهه ، ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ " . قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ " . فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك أخي ، كان نبيا وأنا نبي " . فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابناء ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاءهما عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ، ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ، ما في الأرض شيء خير من هذا ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك; فإن دينك خير من دينه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق ، إلا أنه لم يذكر الدعاء ، وزاد : وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه ، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ، ولا يضعهما ، إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه ، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء ، فعمد إلى ظل حبلة ، وهو مكروب ، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا [ ص: 341 ] ربيعة فكره مكانهما; لعداوتهما الله ورسوله . ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الإمام أحمد ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني ، عن أبيه ، أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف ، وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر ، فسمعته يقرأ : والسماء والطارق [ الطارق : 1 ] حتى ختمها . قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ، ثم قرأتها في الإسلام . قال فدعتني ثقيف ، فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم ، فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا ، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في " الصحيحين " من طريق عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : " لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال [ ص: 342 ] لتأمره بما شئت فيهم . ثم ناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك; لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية