الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب السادس في الرجوع عن الشهادة

                                                                                                                                                                        رجوع الشهود عن الشهادة إما أن يقع قبل القضاء بشهادتهم ، وإما بعده .

                                                                                                                                                                        الحالة الأولى قبله ، فيمتنع من القضاء ثم إن اعترفوا بتعمد الكذب ، فهم فسقة يستترون ، وإن قالوا : غلطنا ، لم يفسقوا ، لكن لا تقبل تلك الشهادة إن أعادوها ، وإن كانوا شهدوا بالزنى فرجعوا ، واعترفوا بالتعمد ، فسقوا وحدوا حد القذف ، وإن قالوا : غلطنا ، ففي حد القذف وجهان ، أحدهما : المنع ، لأنهم معذورون ، وأصحهما يجب لما فيه من التغيير ، وكان حقهم أن يثبتوا ، فعلى هذا ترد شهادتهم ، وإن قلنا : لا حد ، فلا ترد ، وإن قال الشهود للقاضي بعد الشهادة : توقف في القضاء ، وجب التوقف ، فإن قالوا بعد ذلك : اقض ، فنحن على شهادتنا ، ففي جواز القضاء بشهادتهم وجهان ، أصحهما : الجواز ، فعلى هذا هل تجب إعادة الشهادة ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، لأنهم جزموا بها ، والشك الطارئ زال .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : إذا رجعوا بعد القضاء ، فرجوعهم إما قبل الاستيفاء وإما بعد ، فإن كان قبله ، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي على الصحيح المنصوص ، وإن كانت في قصاص ، أو حد القذف ، لم يستوف على المذهب ، لأنها عقوبة تسقط بالشبهة ، والرجوع شبهة بخلاف المال ، فإنه لا يتأثر بالشبهة ، ووجه الجواز أن حقوق الآدميين مبنية على الضيق ، وإن كانت في حدود الله - تعالى - لم تستوف ، [ ص: 297 ] وقيل : كالقصاص . وإن كانت في شيء من العقود ، أمضي على الأصح ، وقيل : النكاح كحد القذف ، وحيث قلنا بالاستيفاء ، بعد الرجوع ، فاستوفى ، فالحكم كما لو رجعوا بعد الاستيفاء ، أما إذا رجعوا بعد الاستيفاء ، فلا ينقض الحكم . ثم قد تكون الشهادة فيما يتعذر تداركه ورده ، وقد تكون فيما لا يتعذر ، فهما ضربان الأول المتعذر وهو نوعان ، أحدهما : العقوبات ، فإذا شهدوا بالقتل ، فاقتص من المشهود عليه ، ثم رجعوا ، وقالوا : تعمدنا قتله ، فعليهم القصاص ، أو الدية المغلظة موزعة على عدد رءوسهم ، كما سبق في الجنايات ، وكذا الحكم لو شهدوا بالردة فقتل ، أو بزنى المحصن فرجم ، أو على بكر ، فجلد ومات منه ، أو بسرقة أو قطع فقطع ، أو بقذف أو شرب فجلد ومات منه ، ثم رجعوا . ويحدون في شهادة الزنى وحد القذف أو لا ، ثم يقتلون ، وهل يرجمون أو يقتلون بالسيف ؟ فيه احتمالان ، ذكرهما أبو الحسن العبادي ، والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        ثم هنا صور إحداها : لو رجع القاضي دون الشهود ، وقال : تعمدت ، لزمه القصاص ، أو الدية المغلظة وبكمالها ، ولو رجع القاضي والشهود جميعا ، لزمهم القصاص ، وإن قالوا : أخطأنا ، أو عفا على مال ، فالدية منصفة ، عليهما نصفها ، وعليه نصفها ، هكذا نقله البغوي وغيره ، وقياسه أن لا يجب كمال الدية عند رجوعه وحده ، كما لو رجع بعض الشهود ، ولو رجع ولي الدم وحده ، لزمه القصاص ، أو كمال الدية ، ولو رجع مع الشهود ، فوجهان أصحهما عند الإمام أن القصاص أو كمال الدية على الولي ؛ لأنه المباشر ، وهم معه كالممسك مع القاتل ، وأصحهما عند البغوي أنهم معه ، كالشريك لتعاونهم على القتل ، لا كالممسك ؛ لأنه جعلهم كالمحقين ، فعلى هذا [ ص: 298 ] على الجميع القصاص أو الدية ، نصفها على الولي ، ونصفها على الشهود ، ولو رجع القاضي معهم ، فالدية مثلثة ، ثلثها على القاضي ، وثلث على الولي ، وثلث على الشهود ، وينبغي على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع وحده .

                                                                                                                                                                        قلت : لم يرجح الرافعي واحدا من الوجهين ، بل حكى اختلاف الإمام والبغوي في الصحيح ، والأصح ما صححه الإمام وقد سبق في أول كتاب الجنايات من هذا الكتاب القطع به ، فهو الأصح نقلا ودليلا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية : هل يتعلق بالمزكي الراجع قصاص وضمان ؟ فيه أوجه ، أحدها : لا ؛ لأنه لم يتعرض للمشهود عليه ، وإنما أثنى على الشاهد ، والحكم يقع بالشاهد ، فكان كالممسك مع القاتل ، وأصحهما : نعم ؛ لأنه بالتزكية ألجأ القاضى إلى الحكم المفضي إلى القتل ، والثالث يتعلق به الضمان دون القصاص ، قال القفال : الخلاف فيما إذا قال المزكيان : علمنا كذب الشاهدين ، فإن قالا : علمنا فسقهما ، فلا شيء عليهما ، لأنهما قد يكونان صادقين مع الفسق ، وطرد الإمام الخلاف في الحالين .

                                                                                                                                                                        الثالثة : ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين هو فيما إذا قالوا : تعمدنا ، فلو قالوا : أخطأنا ، وكان الجاني أو الزاني غيره ، فلا قصاص ، وتجب الدية مخففة ، وتكون في مالهم ؛ لأن إقرارهم لا يلزم العاقلة ، فإن صدقهم العاقلة ، فهي على العاقلة .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وقد يرى القاضي والحالة هذه تعزيز الشهود لتركهم التحفيظ ، ولو قال أحد شاهدي القتل : تعمدت ولا أدري أتعمد صاحبي أم لا ، واقتصر على قوله : تعمدت وقال صاحبه : أخطأت ، فلا قصاص على [ ص: 299 ] واحد منهما ؛ لأن شريك المخطئ لا قصاص عليه ، وقسط المخطئ من الدية يكون مخففا ، وقسط المتعمد يكون مغلظا . ولو قال كل واحد : تعمدت ، وأخطأ صاحبي ، فوجهان ، أحدهما : يجب القصاص لاعترافهما بالعمدية ، وأصحهما : المنع ، ولا خلاف أن الدية تجب عليهما مغلظة . ولو قال أحدهما : تعمدت وأخطأ صاحبي ، أو قال : ولا أدري أتعمد صاحبي أم أخطأ ، وصاحبه غائب أو ميت ، فلا قصاص ، ولو قال : تعمدت وتعمد صاحبي ، وصاحبه غائب أو ميت ، لزمه القصاص . ولو قال : تعمدت ولا أعلم حال صاحبي ، وقال صاحبه مثله ، أو اقتصر على قوله : تعمدت ، لزمهما القصاص ، ذكره البغوي وغيره .

                                                                                                                                                                        ولو قال أحدهما : تعمدت أنا وصاحبي ، وقال الآخر : أخطأت أو أخطأنا معا ، فلا قصاص على الثاني ، ويلزم الأول على الأصح . ولو قال أحدهما : تعمدت وتعمد صاحبي ، وقال صاحبه : تعمدت وأخطأ هو ، وجب القصاص على الأول ، ولا يجب على الثاني على الصحيح ؛ لأنه لم يعترف إلا بشركة مخطئ . ولو رجع أحد الشاهدين ، وأصر الآخر ، وقال الراجع : تعمدت ، لزمه القصاص ، وإن اقتصر على قوله : تعمدت ، فلا .

                                                                                                                                                                        الرابعة : ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين فيما إذا قالوا : تعمدنا ، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا ، فإن قالوا : تعمدنا ، ولم نعلم أنه يقتل ، فإن كانوا ممن لا يخفى عليه ذلك ، وجب القصاص ، ولا اعتبار بقولهم ، كمن رمى سهما إلى رجل ، واعترف بأنه قصده ، ولكن قال : لم أعلم أنه يبلغه ، وإن كانوا ممن يجوز خفاؤه عليهم [ ص: 300 ] لقرب عهدهم بالإسلام ، فالذي قال الأصحاب : إنه شبه عمد لا يوجب قصاصا ، ومال الإمام إلى وجوبه ، وحكى الروياني وجها شاذا مأخوذا ، مما لو ضرب المريض ضربا يقتل المريض دون الصحيح ، ولم يعلم مرضه ، وأما الدية ، فتجب في مال الشهود مؤجلة في ثلاث سنين إلا أن تصدقهم العاقلة ، فيجب عليها ، وقال القفال : حالة لتعمدهم ، والصحيح الأول ، وبه قطع الجمهور .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية