الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2077 - مسألة : في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأخبار { القاتل والمقتول في النار وإن قتلته كنت مثله }

                                                                                                                                                                                          قال علي : قد أيقنا - ولله الحمد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق المتيقن ، وأيقنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يقضي بباطل - وهو يدري أنه باطل - فإذ لا شك في هذين الوجهين ، فالواجب علينا طلب وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بالقود في هذه الأخبار ، وإطلاقه على القتل في ذلك ، مع قوله الصادق { وإن قتله كان مثله ، والقاتل والمقتول في النار } فإن للسائل أن يقول : كيف يقضي له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقود لا يحل له - وهو يدري أنه لا يحل له - حاش لله من هذا . وإذ لا يجوز هذا فكيف يكون في النار ، ومثلا للقاتل ، من استقاد كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتص بالحق قال أبو محمد : أما تفسير ابن أشوع الذي ذكرناه آنفا من طريق مسلم عنه أن ذلك كان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله العفو عنه فأبى ، فإنه تفسير فاسد لا يجوز ألبتة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لا يخلو في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون شافعا في العفو ، وإما أن يكون آمرا بالعفو ، فإن كان شافعا فليس الممتنع من إسعاف شفاعته صلى الله عليه وسلم عاصيا لله تعالى كما فعلت بريرة إذ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خيرها في البقاء مع زوجها أو فراقه فاختارت فراقه { لو راجعتيه فإنه أبو ولدك . فقالت : أتأمرني يا رسول الله ؟ قال : لا ، إنما أنا شافع . فقالت : لا أرجع إليه أبدا } فلا خلاف بين أحد من الأمة أن بريرة - رضي الله عنها - لم تكن عاصية بذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن كان عليه الصلاة والسلام شافعا في هذا القاتل ، فليس الممتنع عاصيا فإذ [ ص: 105 ] ليس عاصيا فليس في النار ، ولا هو مثل القاتل الظالم ، وإن كان صلى الله عليه وسلم آمرا فهو بيقين لا يأمر إلا بواجب فرض .

                                                                                                                                                                                          ومن الباطل أن يأمر عليه الصلاة والسلام بشيء ويطلق على خلافه ، ولا يمنع من الحرام الذي هو خلاف أمر - وهذا هو القضاء بالباطل ، وقد أبعده الله تعالى عن هذا .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : هو أمر على الندب . قلنا : لا راحة لكم في هذا ، لأن من ترك قبول الأمر بالندب الذي ليس فرضا فليس في النار ، ولا هو مثل القاتل الظالم - فبطل تفسير ابن أشوع .

                                                                                                                                                                                          وهكذا القول فيما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا علي بن الحكم البناني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير قال { إن الرجل قال : يا رسول الله قتل أخي فدخل النار ، وإن قتلته دخلت النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قتل أخاك فدخل النار بقتله إياه ، وإني نهيتك عن قتله ، فإن قتلته دخلت النار بمعصيتك إياي . } قال أبو محمد : وهذا مرسل ، والمرسل لا تقوم به حجة ، والقول في إبطاله كالقول في حديث ابن أشوع ولا فرق

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى حماد عن حميد عن الحسن أنه كان يعني بهذا الخبر { إن قتلته فأنت مثله } " كان يرى ذلك عاما - وكذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا ابن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا موسى بن إسماعيل نا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو } . قال : فلو كان هذا أمر فرض وإيجاب لحرم القصاص جملة - وهذا أمر متيقن أنه لا يقوله أحد من أهل الإسلام ، فإن كان أمر ندب فلا يدخل النار ، ولا يكون ظالما من ترك الندب غير راغب عنه ، فإن تركه راغبا عنه فهو فاسق وربما كفر .

                                                                                                                                                                                          قال علي : والقول في هذا عندنا هو ما وجدناه في خبر آخر - وهو الذي حدثناه [ ص: 106 ] عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي ، وأحمد بن حرب - واللفظ له - قالا : نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : { قتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع القاتل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول فقال القاتل : يا رسول الله لا ، والله ما أردت قتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولي المقتول : أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار ، فخلى سبيله - وكان مكتوفا - فخرج يجر نسعته ، فسمي : ذا النسعة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذا بيان الأخبار الواردة في هذا الحكم ، لا يجوز غير ذلك ألبتة ، وهو أنه حكم عليه الصلاة والسلام بالقود والقتل قصاصا بظاهر البينة ، أو الإقرار التام .

                                                                                                                                                                                          وهذا هو الحق المفترض على الحكام المتيقن أن الله تعالى أمرهم به ، ولم يكلفهم علم الغيب ، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالحق في ذلك ، فلما قال : إني لم أرد قتله - وكان ذلك ممكنا - أخبره عليه الصلاة والسلام بأنه إن كان كذلك فقاتله في النار وهو مثله ، لأنه لا يحل له قتله حينئذ ، فصار حكمه عليه الصلاة والسلام حقا ، وقوله حقا .

                                                                                                                                                                                          كما قال أيضا عليه الصلاة والسلام { فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار } .

                                                                                                                                                                                          وهو عليه الصلاة والسلام في ظاهر الحكم بالبينة ، أو الإقرار ، أو اليمين حاكم بالحق المتيقن لا بالظن ، لكن بما أمره الله تعالى أن يحكم به ولا بد ، وإن كان الباطن بخلاف ذلك مما لو علمه عليه الصلاة والسلام لم ينفذه ، ولا تركه يمضي أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : هذا وجه الجمع بين حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله في ذلك فما وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بأن القاتل والمقتول في النار ، وأنه مثله ؟ وكيف يكون من قتل غير مريد للقتل في النار ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بغيب أعلمه الله تعالى [ ص: 107 ] إياه ، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقول ألبتة إلا الحق ، ولا يقول بالظن قاصدا إلى ذلك - ومن قال هذا عليه ونسبه إليه : فهو كافر ، فنقول : إن ذلك القاتل الذي لم يعمد القتل كان فاسقا من أهل النار بعمل له غير هذا القتل ، أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على عاقبته فيه ، ولم يكن دمه يحل لهذا المستقيد ، لأنه لم يعمد قتل أخيه ، فلو قتله على هذا الوجه لكان قاتلا بغير الحق ، ولاستحق النار ، ولكان ظالما كالمقتول ، إذ ليس كل ظالم يستحق القتل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية