الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فحملته فانتبذت به مكانا قصيا جاء في بعض الروايات أنها حملت بنفخ جبريل في بعض ثيابها؛ فروي أن جبريل - عليه السلام -؛ حين قال لها: كذلك قال ربك هو علي هين نفخ في جيب درعها؛ وعن ابن عباس : "أخذ جبريل ردن قميصها فنفخ فيه؛ فحملت من ساعتها بعيسى "؛ وإن هذا يتلاقى مع قوله - في سورة "الأنبياء " -: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ؛ فهو لم ينفخ في الفرج؛ ولكن نفخ في مريم ذاتها؛ وذلك بالنفخ في فتحات من قميصها؛ وعلى أي حال الكلام في ذلك ليس ذا جداء؛ فإن جبريل روح من الله (تعالى)؛ وليست له خواص الآدمي؛ بل له الخواص الروحية التي لا تتصل بالمادة.

                                                          قيل: كان الحمل بعيسى ومريم في نحو الثالثة عشرة من عمرها؛ ولا يهمنا مقدار سنها؛ إنما يهمنا أنها كانت عذراء؛ وأنها حملت من غير زوج مطلقا؛ بل جاء حملها أمرا خارقا لنظام الأسباب والمسببات؛ الذي كان يؤمن به الفلاسفة؛ ولا يؤمنون بأن الله فعال لما يريد؛ فجاءت ولادة عيسى من غير أب أمرا خارقا لهذا النظام; ولذا قال الشهرستاني: بحق إن عيسى بوجوده معجزة في ذاتها.

                                                          وعندما أحست بالحمل؛ واعتزلت الناس؛ وانفردت عنهم؛ وانتبذتهم في مكان قصي بعيد؛ وشددت في نبذهم؛ وعدم الانغمار في جمعهم؛ لأنها صارت تصاحب من نفسها من يؤنسها في وحدتها؛ وهو الحمل الذي تسعد به كل امرأة في هذه الدنيا؛ ولذا قال (تعالى): فانتبذت به أي: انتبذت مصاحبة له؛ مكانا قصيا "مكانا "؛ ظرف؛ أي: في مكان قصي ؛ بعيد عن الناس؛ حتى لا يروها فيقلقوها بفضولهم؛ وفي الناس في كل العصور فضول؛ يقولون فيه ما لا يعنيهم؛ ولا يهمهم؛ ولكن لا بد من المواجهة عندما ترجع إليهم حاملة معها غلاما طاهرا زكيا ناميا. [ ص: 4626 ] ولم يذكر علماء الأخبار شيئا يتعلق بمدة حمله؛ فكان ذلك على مجرى المعتاد في الحمل؛ وهو تسعة أشهر؛ حتى يأخذ الجنين أدواره كلها؛ علقة؛ ثم مضغة؛ فعظاما؛ ثم تكسى العظام لحما؛ وكان الأمر الخارق للعادة أنه لم تكن نطفة في قرار مكين تولدت عنها العلقة؛ والنفخ في القميص من روح الله - جبريل - لا يوجد نطفة؛ ولكن روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال "؛ قال القرطبي : لأن الله (تعالى) ذكر الانتباذ عقب الحمل؛ ولعله يؤيد ذلك النظر العطف بالفاء في الحمل؛ ثم في الانتباذ؛ ثم في مجيء المخاض؛ ولا مانع عندنا من قبول ذلك؛ ولكن لا دليل عليه؛ وإن صح يكون أمرا خارقا آخر؛ ولم يذكر ما يدل عليه من القرآن؛ ولا السنة المرفوعة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم.

                                                          وكانت - عليها السلام - قد انتبذت الناس في ذلك المكان القصي؛ حتى اضطرت إلى الخروج منه؛ وذلك بسبب المخاض؛ الذي هو مقدمة الولادة؛ ولذا قال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية