الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2088 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          هل يجوز عفو المجني عليه جناية يموت منها خطأ أو عمدا عن ديته وغيرها عن دمه أم لا ؟

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن أشعث بن سوار عن أبي بكر بن حفص قال : كان بين قوم من بني عدي وبين حي من الأحياء قتال ، ورمي بالحجارة ، وضرب بالنعال ، فأصيب غلام من آل عمر ، فأتى على نفسه ، فلما كان قبل خروج نفسه قال : إني قد عفوت رجاء الثواب والإصلاح بين قومي ، فأجازه ابن عمر .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أبي بكر بن أبي شيبة نا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال : إذا عفا الرجل عن قاتله في العمد قبل أن يموت فهو جائز .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن طاوس قلت لأبي : يقتل عمدا أو خطأ فيعفو عن دمه ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                          وعن الشعبي قال : إذا قتل الرجل فعفا عن دمه فليس للورثة أن يقتلوا .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن جريج قلت لعطاء : إن وهب الذي يقتل خطأ ديته لمن قتله ، فإنما له منها ثلثها ، إنما هو مال يوصي به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال : كتب عمر بن عبد العزيز أن لا يتصدق [ ص: 134 ] الرجل بديته فإن قتل خطأ فالثلث من ذلك جائز إذا لم يكن له مال غيره .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن فيمن يضرب بالسيف عمدا ثم يعفو عنه قبل أن يموت ؟ قال : هو جائز ، وليس في الثلث .

                                                                                                                                                                                          وقال - هشام عن الحسن : إذا كان خطأ فهو في الثلث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا قبيصة بن عقبة نا سفيان عن ابن جريج عن أبي عبيد الله عن ابن عباس في رجل قطعت يده فصالح عليها ، ثم انتقضت به فمات ؟ قال : الصلح مردود : ويؤخذ بالدية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما المتأخرون - فإن أبا حنيفة ، وزفر قالا : إذا عفا عن الجراحة العمد ، أو الشجة ، وعما يحدث منها فهو جائز ، ولا شيء على القاتل ، فإن عفا عن الجراحة ، أو القطع ، أو الشجة ، ثم مات فعليه الدية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو يوسف ، ومحمد : لا شيء على القاتل في كل ذلك - قالوا : فإن عفا عن ديته في الخطأ فذلك في الثلث .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : من صالح من جراحة ، أو من قطع ثم مات : بطل الصلح ووجب القود - فإن عفا عن ديته في الخطأ فذلك في ثلثه .

                                                                                                                                                                                          وقال سفيان الثوري : إذا عفا عن الجراحة ثم مات فلا قود ، لكن يغرم الجاني الدية بعد أن يسقط منها أرش الجراحة .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : إذا عفا عن الجراحة وعما يحدث منها من عقل ، أو قود ثم مات فلا قود - ثم اختلف قوله في الدية ، فمرة قال كقول سفيان الثوري الذي ذكرنا قبله ومرة قال : يؤخذ بجميع الدية .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي في أحد قوليه - وبه يقول أبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق : لا عفو له في العمد . [ ص: 135 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - ونظرنا في ذلك ; لنعلم الحق فنتبعه ، فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ، وقال تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } ، وقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية .

                                                                                                                                                                                          وذكروا ما حدثنا حمام نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة { أن عروة بن مسعود الثقفي دعا قومه إلى الله ورسوله فرماه رجل منهم بسهم فمات فعفا عنه فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز عفوه ، وقال : هو كصاحب ياسين } .

                                                                                                                                                                                          نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن عبد الله نا عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت قال : قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق به } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وقالوا : هذا حكم ابن عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - ولا يعرف له منهم مخالف - وقالوا : هذا هو المجني عليه فهو أولى بنفس .

                                                                                                                                                                                          فهذا كل ما أوردوه في ذلك ؟ فنظرنا في الذي احتجوا به ، فوجدناه لا حجة لهم في شيء منه أصلا .

                                                                                                                                                                                          أما قول الله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } فإنما قال تعالى ذلك عقب قوله تعالى { والعين بالعين } إلى قوله تعالى { فهو كفارة له } ، وهذا كله كلام مبتدأ بعد تمام قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فإنما جاء نص الله تعالى على الصدقة بالجروح بالأعضاء [ ص: 136 ]

                                                                                                                                                                                          وهكذا نقول : إن للمجني عليه أن يتصدق بما أصيب به من ذلك ، فيبطل القود جملة في ذلك ، وليس في هذه الآية حكم الصدقة بالدم في النفس ، لأن النفس بالنفس ، إنما هو في التوراة بنص الآية .

                                                                                                                                                                                          وليس ذلك خطابا لنا ، وإنما خوطبنا بما بعده إذا قرئ كل ذلك بالرفع خاصة ، فإذا قرئ بالنصب فليس خطابا لنا ، وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى - فبطل تعلقهم بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية ، فهي بنصها بيان جلي بأنها إنما هي فيما دون النفس ، لأن المخاطب فيها بأن يعاقب بمثل ما عوقب به ، هو الذي عوقب نفسه - هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحل صرفها عنه بالدعوى ، وهكذا نقول .

                                                                                                                                                                                          وليس فيها جواز العفو عن النفس أصلا ، وإنما فيها جواز الصبر عن أن يعاقب بمثل ما عوقب به فقط .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } إلى قوله { فأجره على الله } فهو عموم يدخل فيه العفو عن النفس وما دونها وعفو الولي أيضا داخل فيها فإن وجدنا منها دليلا يخص منها ما ذكروه وجب المصير إليه ، وإلا فقد صح قولهم .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث عروة بن مسعود - رضي الله عنه - فإنما قام بدعوة قومه إلى الإسلام وهم كفار حربيون قد حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم ورجع عنهم - وهم أطغى ما كانوا - فتوجه إليهم عروة داعيا إلى الإسلام كما في نص الحديث المذكور - فرموه فقتلوه - ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا قود على قاتله إذا أسلم ولا دية ، فأي معنى للعفو هاهنا ؟ وهكذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب ياسين فبطل أن يكون لهم متعلق به أصلا وإنما هي تمويهات يرسلونها لا يفكرون في المخرج منها يوم الموقف بين يدي الله تعالى . [ ص: 137 ]

                                                                                                                                                                                          وأما حديث عدي بن ثابت - فعهدنا بإسماعيل يرد المسند الصحيح عن عدي بن ثابت إذا خالف رأيه فيمن سمع الأذان فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ، ويوهن روايته بأنه منكر الحديث ، ومن أيقن أنه مسئول عن كلامه ، لا سيما في الدين ويفكر في قوله تعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } لم يجترئ على مثل هذا ، وأقرب من هذه الفضيحة العاجلة عند من طالع أقوالهم - والحمد لله على ما من به من الإذعان للحق - وترك العصبية للأقوال التي لا تغني عنا من الله شيئا ، لا هي ، ولا القائل بها .

                                                                                                                                                                                          ثم نرجع إلى الحديث المذكور فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إن فيه عللا تمنع من الاحتجاج به :

                                                                                                                                                                                          أحدها : أنه من رواية عمران بن ظبيان - وليس معروف العدالة - قال أحمد : فيه نظر .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه منقطع لأن عدي بن ثابت لم يذكر سماعه إياه من الصاحب .

                                                                                                                                                                                          والثالث : أننا لا ندري ذلك الصاحب أصحت صحبته أم لا ؟

                                                                                                                                                                                          والرابع : أنه لو صح لكان عموما كما قلنا في قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } ، فإن وجد دليل يخص من هذا العموم له وإلا فواجب حملهما على عمومهما - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم - أنه قول ابن عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلا حجة لهم في هذا ، لوجوه :

                                                                                                                                                                                          أولها : أننا قد ذكرنا ما خالفوا فيه جمهور الصحابة الذين لا يعرف له منهم مخالف إذا لم يوافق آراءهم ، أقرب ذلك حكم عمر بن الخطاب ، وابن عباس - رضي الله عنهم - في اليد الشلاء تقطع ، والسن السوداء تكسر ، بثلث دية .

                                                                                                                                                                                          فقول الصاحب إذا وافق أهواءهم كان عندهم حجة لا يحل خلافها وإذا خالف أهواءهم وتقليدهم لم يكن عندهم حجة وحل خلافه - وهذا حكم لا طريق للتقوى ولا للحياء إلى قائله . [ ص: 138 ]

                                                                                                                                                                                          وثانيها : أنه عن أشعث بن سوار ، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وثالثها : أنه منقطع أيضا - لأنه عن أبي بكر بن حفص ولم يدرك ابن عمر .

                                                                                                                                                                                          ورابعها : أن الأمر لم يكن كذلك وهي قصة مشهورة له وإنما كان بين أولاد الجهم بن حذيفة العدوي شر ومقاتلة فتعصبت بيوتات بني عدي بينهم فأتى الغلام المذكور ليلا والضرب قد وقع بينهم في الظلام - وهذا الغلام هو زيد بن عمر بن الخطاب - وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - فأصابه حجر لا يدرى من رماه وقد قيل - ظنا - : إن خالد بن أسلم أخا زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب هو الذي ضربه - وهو لا يعرف من هو في الظلمة - وكان ابن عمر أخوه يقول له عند الموت : اتق الله يا زيد فإنك لا تعرف من أصابك ، فإنك كنت في ظلمة واختلاط - فهكذا كانت قصته .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إنه هو المجني عليه فهو أولى بنفسه : فتمويه ضعيف - لأن الجناية عليه التي هو أولى بها إنما هي ما كان حاكما فيها بعد حلولها به ، وهذا حق ، وإنما ذلك فيما عاش بعدها ، فاختار ما له أن يختار ، وأما بعد موته فهو غير موجود عندنا بعد الموت ، ولا خيار له في جناية لم تحدث بعد .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما لم يبق لهم متعلق إلا قوله تعالى في قتل الخطأ { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ومن تصدق بدم نظرنا في ذلك .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا قوله تعالى في قتل الخطأ { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } إلى قوله تعالى { ودية مسلمة إلى أهله }

                                                                                                                                                                                          ووجدناه تعالى يقول في قتل العمد { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } إلى قوله تعالى { إنه كان منصورا } ولا قتل إلا عمد أو خطأ . فصح أن الدية في الخطأ فرض أن تسلم إلى أهله ، فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إلا من أمر الله تعالى بتسليمها إليهم ، وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله - فهذا بيان لا إشكال فيه . وصح بنص كلام الله تعالى وحكمه الذي لا يرد أن الله تعالى جعل لولي المقتول - سلطانا ، وجعل إليه القود ، وحرم عليه أن يسرف ، فمن الباطل المتيقن أن [ ص: 139 ] يجوز للمقتول حكم في إبطال السلطان الذي جعله الله تعالى لوليه ، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول في خلاف أمر الله تعالى ; وهذا هو الحيف والإثم من الوصية .

                                                                                                                                                                                          وكذلك جعل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل المقتول الخيار في القود ، أو الدية ، أو المفاداة ، فنشهد بشهادة الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل للمقتول أن يبطل خيارا جعله الله ورسوله - عليه الصلاة والسلام - لأهله بعد موته ، وأنه لا يحل لأحد إنفاذ حكم المقتول في ذلك ، وأن هذا خطأ متيقن عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          فكان بيقين عفو المقتول عن دية جعلها الله تعالى لأهله بعده لا له ، قال الله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ، فكان عفو المقتول عن دية أوجب الله تعالى تسليمها إلى أهله ، وعن دم ، أو مال ، خير الله تعالى فيهما أهله بعده : كسبا على أهله - وهذا باطل بنص القرآن .

                                                                                                                                                                                          وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } والدية إنما هي ، بنص القرآن ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المقتول ، فحرام على المقتول التصرف في ، شيء من ذلك ، لأنها مال أهله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولم يأت قط نص من الله تعالى ، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم على أن للمقتول سلطانا في القود في نفسه ، ولا أن له خيارا في دية ، أو قود ، ولا أن له دية واجبة .

                                                                                                                                                                                          فبطل أن يكون له في شيء من ذلك حق ، أو رأي ، أو نظر ، أو أمر .

                                                                                                                                                                                          فإذ ذلك كذلك بلا شك فقوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } إنما هو فيما جني عليه فيما دون النفس ، وفيما عفا عنه من جعل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام العفو إليه - وهم الأهل - بعد موت المقتول وهكذا يكون القول في الخبر المذكور لو صح .

                                                                                                                                                                                          وبرهان آخر - أن الدية عوض من القود بلا شك في العمد وعوض من النفس في الخطأ بيقين ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن المقتول ما دام حيا فليس له حق في القود ، فإذ لا حق له في ذلك ، فلا عفو له ، ولا أمر فيما لا حق له فيه . [ ص: 140 ]

                                                                                                                                                                                          وكذلك من لم تذهب نفسه بعد ، لأن الدية في الخطأ عوض منها ، فلم يجب بعد شيء ، فلا حق له فيما لم يجب بعد ، وبيقين يدري كل ذي عقل أن القود لا يجب ، ولا الدية ، إلا بعد الموت ، وهو إذا لم يمت فلم يجب له بعد على القاتل لا قود ، ولا دية ، ولا على العاقلة .

                                                                                                                                                                                          وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا حق لأحد في شيء لم يجب بعد ، فإذا وجب كل ذلك بموته فالحكم حينئذ للأهل لا له .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فبطل أن يكون للمقتول خطأ ، أو عمدا : عفو ، أو حكم ، أو وصية في القود ، أو في الدية ، فإذ ذلك كذلك فإنما هي مال للأهل حدث لهم بعد موته ، ولم يرثوه قط عنه ، إذ لم يجب له قط شيء منه في حياته ، فمن الباطل أن يقضى دينه من مال الورثة الذي لم يملكه هو قط في حياته ، وأن ينفذ فيه وصيته ، وهو وإن كان إنما وجب لهم من أجل موته ، فهو كمال مولى له مات إثر موته ، فوجب للورثة من أجل الميت ، ولم يجب للميت وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلو عفا الورثة أو أحدهم عن نصيبه من دية الخطأ قبل موت المقتول ، أو عفوا كلهم عن القود قبل موت المقتول ، فهو كله باطل ، وذلك لأنه لم يجب لهم بعد شيء من ذلك ، وإنما يجب لهم بموته ، فإذ ذلك كذلك فعفوهم لا شيء ، ولا يلزمهم ، والدية واجبة لهم ، أو العافي بعد موت المقتول ، وكذلك القود واجب لهم أيضا - وهذا قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وما نراه إلا قول المالكيين ، والشافعيين أيضا ، فمن عجائب الدنيا أن يسقطوا عفو الورثة قبل أن يجب لهم القود أو الدية - وهم أهل ذلك ومستحقوه بلا خلاف - ثم يجيزون عفو المقتول في شيء لم يجب له قط في حياته - وهي الدية والقود - ولا يجب له أيضا بعد وفاته - فهذا مقدار نظرهم . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما من جني عليه جرح ، أو قطع ، أو كسر ، فعفا عنه فقط ، أو عنه وعما يحدث عنه ، فعفوه عما يحدث منه باطل كما قدمنا لأنه لم يجب له بعد .

                                                                                                                                                                                          وأما عفوه عما جني عليه فهو جائز ، وهو له لازم ، وذلك لأنه قد وجب له القود في الكسر ، أو المفاداة في الجراحة ، فإن عفا فإنما عفا عن حقه الذي وجب له بعد ، [ ص: 141 ] فإن مات من ذلك أو حدث عنه بطلان عضو آخر ، فله القود في العضو الآخر ، لأنه الآن وجب له ولأوليائه القتل بالسيف خاصة - لا بمثل ما جنى على مقتولهم - لأن تلك الجنايات كان له القود فيها فعفا عنها فسقطت وبقي قتل النفس فقط ، ولا عفو له فيه ، فهو للورثة ، فلهم قتله ، وإذ لهم قتله ، وبطل أن يقتص منه بمثل ما جنى عليه ، فلا خلاف في أن الجناية لم يقد منها ، فإنما القتل بالسيف فقط .

                                                                                                                                                                                          وهكذا لو استقاد المجني عليه مما جنى عليه الجاني ثم مات المجني عليه ، فإن الجاني يقتل بالسيف فقط ، لأنه قد استقيد منه في الجناية فلا يعتدى عليه بأخرى .

                                                                                                                                                                                          قال علي : ولو أن جانيا جنى على إنسان جناية قد يعاش منها ، أو لا سبيل إلى العيش منها ، فقام ولي هذا المجني عليه فقتل الجاني قبل موت المجني عليه ، فلأولياء الجاني المقتول قتل قاتل وليهم ، ثم إن مات الجاني عليه فلا شيء في ذلك ، لأن كل جناية لم يمت صاحبها حتى مات الجاني فلا شيء فيها ، لأن القود قد بطل بموته ، وقد صار المال في حياة المجني عليه لغير الجاني ، وهم الورثة ، فهو مال من مالهم ، ولا حق له عندهم ، ولا مال للجاني أصلا ، فجنايته باطل ، قال تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية