الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 315 ] قوله عز وجل:

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون الإشارة بـ "تلك" إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين، ولما كان فيها ذكر التعذيب أخبر تعالى أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى. وقوله تعالى: "بالحق" معناه: بالإخبار الحق، ويحتمل أن يكون المعنى: نتلوها عليك مضمنة الأفاعيل التي هي حق في أنفسها، من كرامة قوم، وتعذيب آخرين.

وقرأ أبو نهيك: "يتلوها" بالياء، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلما في حكمه، فإذا لا يوجد.

ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن الحق لا يعترض عليه، وذلك في قوله: ولله ما في السماوات وما في الأرض الآية، وقال: "ما" ولم يقل: "من" من حيث هي جمل وأجناس.

وذكر الطبري: أن بعض البصريين نظر قوله تعالى: "وإلى الله" فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر:


لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا



[ ص: 316 ] وما جرى مجراه، وقاله الزجاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع. وقرأ بعض السبعة: "ترجع الأمور" بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك.

واختلف المتأولون في معنى: كنتم خير أمة أخرجت للناس ; فقال عمر بن الخطاب: هذه لأولنا، ولا تكون لآخرنا، وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

يريد ومن شاكلهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهذا كله قول واحد، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة، قيل لهم: كنتم خير أمة، فالإشارة بقوله: "أمة" إلى أمة محمد معينة، فإن هؤلاء هم خيرها.

وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم: معنى الآية: خطاب الأمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس، فلفظ أمة، على هذا التأويل اسم جنس، كأنه [ ص: 317 ] قيل لهم: كنتم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون"... الحديث. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو مسند ظهره إلى الكعبة: "نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها" قال مجاهد: معنى الآية: كنتم خير الناس، وقال الحسن: نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: معنى الآية كنتم للناس خير الناس.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فـ "أمة" على هذا التأويل: اسم جنس، قال أبو هريرة: يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولم يبعث نبي إلى الأمة كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه، فهم خير الناس للناس، وليس يلزم على هذا التأويل أنهم أفضل الأمم من نفس لفظ الآية، لكن يعلم هذا من لفظ آخر، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم: "أرأف أمتي بأمتي أبو بكر" فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبا بكر أرأف الناس على الإطلاق في مؤمن وكافر.

[ ص: 318 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب. وأما قوله: "كنتم" على صيغة الماضي، فإنها التي بمعنى الدوام، كما قال وكان الله غفورا رحيما ، إلى غير هذا من الأمثلة، وقال قوم: المعنى كنتم في علم الله، وقيل: في اللوح المحفوظ، وقيل: فيما أخبر به الأمم قديما عنكم. و"خير" على هذه الأقوال كلها خبر كان، ويحتمل أن تكون "كان" التامة، ويكون "خير أمة" نصبا على الحال، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.

وقوله: تأمرون بالمعروف وما بعده أحوال في موضع نصب.

ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح أنهم لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله. وجاءت لفظة "خير" في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة "خير" من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراهما. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا.

وقوله تعالى: منهم المؤمنون تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن. ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم [ ص: 319 ] حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين.

التالي السابق


الخدمات العلمية