الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قوامين صيغة مبالغة ؛ أي : ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق ، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير ، وكذلك الشهادة على الأقربين وذكر الأبوين لوجوب برهما وكونهما أحب الخلق إليه ، ثم ذكر الأقربين ؛ لأنهم مظنة المودة والتعصب ، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد ، وقوله : شهداء لله خبر بعد خبر لكان ، أو حال ولم ينصرف ؛ لأن فيه ألف التأنيث ، وقال ابن عطية : الحال فيه ضعيفة في المعنى ؛ لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط ، وقوله : لله أي : لمرضاته وثوابه ، وقوله : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء ، هذا المعنى الظاهر من الآية ، وقيل : معنى شهداء لله بالوحدانية فيتعلق قوله : ولو على أنفسكم بقوامين ، والأول أولى ، قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا اسم كان مقدر ؛ أي : إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لأجل غناه استجلابا لنفعه وإشفاقا عليه فيترك الشهادة عليه ، أو فقيرا فلا يراعى لأجل فقره رحمة له وإشفاقا عليه فيترك الشهادة عليه ، وإنما قال : فالله أولى بهما ولم يقل : به ؛ مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد ؛ لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما ، وقال الأخفش : تكون ( أو ) بمعنى ( الواو ) ، وقيل : إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله : وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس [ النساء : 12 ] وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا ، وقرأ أبي ( فالله أولى بهم ) وقرأ ابن مسعود ( إن يكن غني أو فقير ) على أن كان تامة فلا تتبعوا الهوى نهاهم عن اتباع الهوى ، وقوله : أن تعدلوا في موضع نصب ، وهو إما من العدل كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ، أو من العدول كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق ، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإن تلووا من اللي ، يقال : لويت فلانا حقه ؛ إذا دفعته عنه ، والمراد لي الشهادة ميلا إلى المشهود عليه ، وقرأ ابن عامر والكوفيون ( وإن تلوا ) من الولاية ؛ أي : وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق ، وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين ؛ الولاية ، والإعراض ، والقراءة الأولى تفيد معنى واحدا وهو الإعراض ، وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن ؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا ، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى ، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين ، وذكر الزجاج نحوه ، قوله : أو تعرضوا أي : عن تأدية الشهادة من الأصل فإن الله كان بما تعملون خبيرا أي : بما تعملون من اللي والإعراض أو من كل عمل ، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه ، وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود ، أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي لذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه ، وقيل : هي خاصة بالشهود .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله أي : اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه ، والخطاب هنا للمؤمنين جميعا والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن ، واللام للعهد والكتاب الذي أنزل من قبل هو كل كتاب ، واللام للجنس ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ( نزل ) و ( أنزل ) بالضم ، وقرأ الباقون بالفتح فيهما ، وقيل : إن الآية نزلت في المنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله ،

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : نزلت في المشركين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله وهما ضعيفان ، قوله : ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أي بشيء من ذلك فقد ضل عن القصد ضلالا بعيدا وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه ، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة ، وتقديم الملائكة على الرسل ؛ لأنه الوسائط بين الله وبين رسله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين الآية ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابون غنيا لغناه ولا يرحمون مسكينا لمسكنته ، وفي قوله : فلا تتبعوا الهوى فتذروا الحق فتجوروا وإن تلووا يعني بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها . وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان [ ص: 336 ] يجلسان عند القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفها سورة النساء ، قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي حين يوسر ، فنزلت كونوا قوامين بالقسط الآية . وأخرج ابن جرير عنه أيضا وإن تلووا أو تعرضوا يقول : تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة فلا تقيم الشهادة على وجهها .

                                                                                                                                                                                                                                      والإعراض : الترك . وأخرج الثعلبي ، عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ، فقالوا : لا نفعل ، فنزلت ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وينبغي النظر في صحة هذا ، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية ولا يفرق بين الصحيح والموضوع . وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك أهل الكتاب ، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق ، فمنهم من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتبعه ، ومنهم من كفر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية