الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2097 - مسألة : هل على الممسك للقتل قود ؟ أم لا ؟ وكذلك الواقف والمصوب والدال ، والمتبع والباغي ؟ [ ص: 170 ] قال علي : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : يؤدب الممسك فقط .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يقتل القاتل ويسجن الممسك حتى يموت .

                                                                                                                                                                                          قالت طائفة : يقتل الممسك أيضا .

                                                                                                                                                                                          فالقائلون بحبسه حتى يموت : كما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال : إن علي بن أبي طالب أتي برجلين قتل أحدهما وأمسك الآخر ، فقتل الذي قتل ، وقال للذي أمسك : أمسكت للموت ، فأنا أحبسك في السجن حتى تموت . .

                                                                                                                                                                                          والقول الثاني - كما روينا عن الحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان عن الممسك والقاتل ؟ فقالا جميعا : يقتل القاتل .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن شهاب أنه كان يقول في الرهط يجتمعون على الرجل فيمسكونه ، فيفقأ أحدهم عينيه ، أو يكسر رجليه ، أو يديه ، أو أسنانه ، أو نحو هذا منه : إنه يقاد من الذي يباشر ذلك منه ، ويعاقب الآخرون الذين أمسكوه عقوبة موجعة - فإن استحب المصاب كانت الدية عليهم كلهم يغرمونها جميعا سواء .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، والشافعي : يقتل القاتل ، ويعاقب الممسك .

                                                                                                                                                                                          وأما القول الثالث - فكما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بكر عن ابن جريج قال : سمعت سليمان بن موسى يقول : الاجتماع فينا على المقتول هو أن يمسك الرجل ويضربه الآخر ، فهما شريكان عندنا في دمه : يقتلان جميعا .

                                                                                                                                                                                          وعن ربيعة أنه قال في الرهط يجتمعون على الرجل فيمسكونه فيفقأ أحدهم عينيه ، أو يكسر رجليه ; أو يديه ، أو أسنانه ، أو نحو هذا منه : أنه يقاد من الذي باشر ، ومن الذي أمسك ، يقاد منهما جميعا .

                                                                                                                                                                                          وبه يقول مالك في القتل إن أمسكه - وهو يدري أنه يريد قتله - فقتله : فالقود عليهما جميعا - وبه يقول الليث بن سعد . [ ص: 171 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك لنعرف صواب ذلك من خطئه : فوجدنا من قال بقتل الممسك يقول : قد جاء عن عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه ليس فيه ذكر للممسك أصلا ، ونعم ، ونحن نقول : لو باشر قتله أهل صنعاء لوجب قتلهم

                                                                                                                                                                                          والثاني - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          والثالث - أنا قد ذكرنا من أقوال عمر التي خالفوه فيها عشرات : كخطبته على المنبر في الضرس جملا ، وفي الضلع جملا ، وفي الترقوة جملا وحكمه في العين العوراء بثلث ديتها وفي السن السوداء بثلث ديتها وفي اليد الشلاء بثلث ديتها كل ذلك عنه بأصح إسناد ، وأوضح بيان .

                                                                                                                                                                                          فمن عجائب الدنيا : أن يكون ما قال عمر - رضي الله عنه - وخطب به ، وحكم به بحضرة الصحابة ، لا يعرف له عنهم مخالف فيه لا يكون : حجة ، ويكون ما لم يقل ، ولا دل عليه ، ولا أشار إليه : حجة .

                                                                                                                                                                                          وقد خالفه في ذلك غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - لو صح ذلك عنه ، فكيف وهو لا يصح ؟ فإن قالوا : إن الممسك معين ؟ قلنا : نعم ، وما جاءت قط سنة ، ولا قرآن ، ولا قياس ، ولا قول صاحب : بأن المعين يقتل - فبطل هذا القول لتعريه من الحجج .

                                                                                                                                                                                          ثم وجدناه يبطله البرهان : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص : على أن { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل ترك دينه ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفسا } والممسك لا يسمى في اللغة ، ولا في الشريعة " قاتلا " .

                                                                                                                                                                                          ثم سألناهم عن الممسك للمرأة حتى يزني بها غيره أعليه حد الزنا ويسمى " زانيا " أم لا ؟ فلا خلاف منهم في أنه ليس " زانيا " ولا يسمى " زانيا " ولا عليه حد زنى - فصح أنه لا يسمى الممسك باسم الفاعل على ما أمسك له . [ ص: 172 ]

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا قول الوليد بن عقبة :

                                                                                                                                                                                          فإن لم تكونوا قاتليه فإنه سواء علينا ممسكوه وضاربه

                                                                                                                                                                                          قيل لهم : هذا قول جائر متعد ، مخبر عن نيته فقط ، لا عن اللغة ، ولا عن الديانة .

                                                                                                                                                                                          وبرهان هذا : قوله في هذا الشعر بعد هذا البيت :

                                                                                                                                                                                          بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم     ولا تنهبوه لا تحل مناهبه


                                                                                                                                                                                          بني هاشم كيف الهوادة بيننا     وعند علي درعه ونجائبه


                                                                                                                                                                                          فإن لم تكونوا قاتليه فإنه     سواء علينا قاتلوه وسالبه


                                                                                                                                                                                          همو قتلوه كي يكونوا مكانه     ما غدرت يوما بكسرى مرازبه

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : حاش لله ، ومعاذ الله ، وأبى الله أن يكون عند علي سلب عثمان ودرعه ونجائبه ، كما قال الوليد الكاذب ، ومعاذ الله أن يكون علي قتل عثمان لأن يكون مكانه ، أو لشيء في الدنيا ، وعلي أتقى لله من أن يقتل عثمان ، وعثمان أتقى لله من أن يقتله علي .

                                                                                                                                                                                          ثم لو احتججنا بهذا البيت لكان حجة لنا عليهم ، لأن فيه : فإن لم تكونوا قاتليه فإنه سواء علينا ممسكوه وضاربه فقد أخبر أن الممسكين ليسوا قاتلين ، فهذا حجة عليهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ثم نظرنا في غيره فوجدنا الممسك ليس قاتلا ، لكنه حبس إنسانا حتى مات .

                                                                                                                                                                                          وقد قال الله تعالى { والحرمات قصاص } ، فكان الممسك للقتل سببا ومتعديا ، فعليه مثل ما فعل ، فواجب أن يفعل به مثل ما فعل ، فيمسك محبوسا حتى يموت - وبهذا نقول .

                                                                                                                                                                                          وهو قول علي بن أبي طالب ولا يعرف له مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - وقد روي في ذلك أثر مرسل . [ ص: 173 ]

                                                                                                                                                                                          كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع ، قال : نا سفيان عن إسماعيل بن أمية قال { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل يمسكه رجل وقتله آخر بأن يقتل القاتل ويحبس الممسك } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية خبرا أثبته " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يحبس الصابر للموت كما حبس ويقتل القاتل } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : تفريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حكم الحابس وبين حكم القاتل : بيان جلي .

                                                                                                                                                                                          وعهدنا بالحنفيين والمالكيين ، يقولون : إن المرسل والمسند سواء - وهذا مرسل من أحسن المراسيل ، وقد خالفوه ، ويشنعون على من خالف قول الصاحب إذا وافق أهواءهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية