الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثالث في اليمين

                                                                                                                                                                        فيه أطراف :

                                                                                                                                                                        الأول في نفس الحلف ، وصيغ الأيمان مستوفاة في موضعها ، والمقصود الآن بيان قاعدتين إحداهما : أن للتغليظ مدخلا في الأيمان المشروعة في الدعاوى مبالغة في الزجر ، وفيه مسائل : الأولى التغليظ يقع بوجوده ، أحدها التغليظ اللفظي ، وهو ضربان ، أحدهما : التعديد ، وهو مخصوص باللعان والقسامة ، وواجب فيهما ، الثاني : زيادة الأسماء والصفات ، بأن يقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، أو والله الطالب الغالب ، المدرك المهلك ، الذي يعلم السر وأخفى ، وهذا الضرب مستحب ، فلو اقتصر على : " الله " كفى ، واستحب الشافعي رحمه الله أن يقرأ على الحالف ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) الآية ، وأن يحضر المصحف ، ويوضع في حجر الحالف ، وذكر بعضهم أنه يحلف قائما زيادة في التغليظ . والوجه [ ص: 32 ] الثاني : التغليظ بالمكان ، والثالث : التغليظ بالزمان ، وهما مفصلان في كتاب اللعان . وهل التغليظ بالمكان مستحب أم واجب لا يعتد بالحلف في غيره ؟ قولان ، أظهرهما : الأول ، وقيل : مستحب قطعا ، والتغليظ بالزمان مستحب ، وقيل كالمكان ، ورأى الإمام طرد الخلاف في الضرب الثاني من التغليظ اللفظي ، ومن وجوه التغليظ المذكورة في اللعان التغليظ بحضور جمع ، ولم يذكروه هنا ، ويشبه أن يقال : الأيمان المتعلقة بإثبات حد أو دفعه يكون التغليظ فيها بالجمع ، كما هو في اللعان .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب القطع بأنه لا يعتبر هنا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ثم التغليظ هل يتوقف على طلب الخصم ، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، حكاه ابن كج ، ويشبه أن يجريا ، سواء قلنا بالاستحباب أو بالإيجاب .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : يجري التغليظ في دعوى الدم والنكاح ، والطلاق والرجعة ، والإيلاء واللعان ، والعتق والحد ، والولاء والوكالة ، والوصاية ، وكل ما ليس بمال ، ولا يقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع ، وعيوب النساء ، وليس قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها ، بل لأن الرجال لا يطلعون عليها غالبا ، وتوقف الإمام في الوكالة ، وأما الأموال فيجري التغليظ في كثيرها وهو نصاب الزكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم ، وأما قليلها وهو ما دون ذلك فلا تغليظ فيه إلا أن يرى القاضي التغليظ لجرأة الحالف ، فله التغليظ . وعن ابن القطان وجه غريب أن المال الواجب بجناية عمدا وخطأ يغلظ فيه وإن قل .

                                                                                                                                                                        [ ص: 33 ] الثالثة : ما جرى فيه التغليظ يستوي فيه يمين المدعى عليه ، واليمين المردودة ، واليمين مع الشاهد ، وقد يقتضي الحال تغليظ اليمين من أحد الطرفين دون الآخر مثل إن ادعى عبد على سيده عتقا أو كتابة فأنكر السيد ، فإن بلغت قيمته نصابا ، غلظ عليه ، وإلا فلا ، فإن نكل غلظ على العبد بكل حال ، والوقف من جانب المدعى عليه لا تغليظ فيه إلا إذا بلغ نصابا ، وكذا من جانب المدعي إن أثبتناه بشاهد ويمين ، وإن لم نثبته بهما ، غلظ كالعتق ، وفي وجه ما غلظ من طرف غلظ من الآخر ، والصحيح الأول ، وإذا ادعى الزوج الخلع على مال ، وأنكرته حصلت البينونة بقوله ، وتصدق الزوجة في إنكار المال بيمينها ، وينظر في التغليظ إلى قلة المال وكثرته ، فإن ردت اليمين ، وحلف الزوج ، فكذلك ؛ لأن مقصوده المال ، وإن ادعت هي الخلع ، وأنكر ، غلظ عليه ،

                                                                                                                                                                        [ لأن مقصوده استدامة النكاح ، وإن نكل ، فحلفت غلظ ] ؛ لأن مقصودها الفراق .

                                                                                                                                                                        الرابعة : من به مرض أو زمانة ، لا يغلظ عليه في المكان لعذره ، وكذا الحائض ، إذ لا يمكنها اللبث في المسجد ، والمرأة المخدرة في إحضارها مجلس الحكم خلاف سبق ، فإن أحضرت ، فكالرجل في التغليظ ، وإن قلنا : لا تحضر ، بل يبعث القاضي من يحكم بينها وبين خصمها ، فإن اقتضى الحال تحليفها ، فهل يغلظ عليها بالمكان ، وتكلف حضور الجامع أم لا ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، وبه أجاب الشيخ أبو حامد ومتابعوه والغزالي .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من توجهت عليه يمين مغلظة ، وكان حلف بالطلاق أن لا يحلف يمينا مغلظة ، فإن قلنا : التغليظ واجب ، غلظ

                                                                                                                                                                        [ ويحنث ] ، وإن امتنع جعل ناكلا ، وإن قلنا : مستحب ، لم يغلظ .

                                                                                                                                                                        [ ص: 34 ] عليه إتلاف ثوب قيمته عشرة ، فإن قال في الجواب : ما أتلفت ، يحلف .

                                                                                                                                                                        القاعدة الثانية : يشترط كون اليمين مطابقة للإنكار ، فإن ادعى كذلك ، وإن قال : لا يلزمني شيء ، حلف كذلك ، ويشترط وقوعها بعد تحليف القاضي ، فلو حلف قبله ، لم يعتد

                                                                                                                                                                        [ به ] ، فلو قال الحاكم في تحليفه : قل : بالله ، فقال : بالرحمن ، لم يكن مجيبا ، وكان نكولا . ولو قال : قل : بالله ، فقال : والله ، أو تالله ، فهل هو نكول كالصورة الأولى أم لا ؛ لأنه حلف بالاسم الذي حلفه به ؟ وجهان ، ويجريان فيهما لو غلظ عليه باللفظ ، فامتنع ، واقتصر على قوله : والله ، وفيما لو أراد التغليظ بالزمان والمكان فامتنع ، فقال القفال في امتناعه من التغليظ اللفظي : الأصح أنه ناكل ؛ لأنه ليس له رد اجتهاد القاضي ، وقطع بعضهم بأنه ناكل في الامتناع من المكاني والزماني دون اللفظي .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية