الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ؛ ابتدأ بندائه بقوله: "يا أبت "؛ وهو نداء المحبة العاطفة المقربة؛ وذلك شأن الداعي الكامل؛ يبتدئ بما يقرب؛ ولا ينفر؛ و "إذ "؛ متعلقة بـ "اذكر "؛ أي: اذكر حال دعوته لأبيه تلك الدعوة الرفيقة المقربة الميسرة الهادية المرشدة؛ وأمر الله (تعالى) نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يذكرها في الكتاب لتتلى على الناس؛ ويأخذوها سنة في الدعوة إلى الحق؛ وخصوصا الأقربين الأدنين لهم؛ والتاء في قوله (تعالى): "يا أبت "؛ عوض عن ياء المتكلم؛ وذكرها بدل الياء؛ مبالغة في التلطف والرفق؛ بل ربما يكون فيها من تدلل الأبناء على الآباء معنى محبب مقرب.

                                                          وابتدأ بأن قال - غير موجه لوما؛ ولكن ساق إرشاده مساق الاستفهام المستدني؛ لا مقام الآمر المستعلي؛ سائلا له سؤال المستفهم في سياقه؛ ولكن المنبه بأرفق تعبير -: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا لقد وصف معبوده؛ وهو الصنم؛ بثلاث صفات سلبية؛ الوصف الأول: أنه لا يسمع؛ وكيف يعبد من يسمع ما لا يسمع؟! فهو أقل كمالا منه؛ وهو عاجز؛ لأن عدم السماع عجز. [ ص: 4647 ] الوصف الثاني: أنه لا يبصر؛ وأنت تبصر؛ ومن يبصر أكمل مما لا يبصر؛ فكيف تعبد هذا الذي ينقص عنك؛ وأنت خير وأفضل منه.

                                                          الوصف الثالث: أنه لا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا؛ وهذا قوله (تعالى): ولا يغني عنك شيئا أي: لا يدفع شيئا؛ ومجموع هذه الصفات السلبية تفيد أنه لا يجلب له أي نفع; لأنه فاقد لصفات الله التي يكون بها القدرة على النفع؛ وقد قال الزمخشري في ذلك: انظر حين أراد أن ينصح أباه؛ ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطإ العظيم؛ والارتكاب الشنيع؛ الذي عصى فيه أمر العقلاء؛ وانسلخ عن قضية التمييز من الغباوة التي ليس بعدها غباوة؛ كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق؛ وساقه أرشق مساق؛ مع استعمال المجاملة؛ والرفق؛ واللين؛ والأدب الجميل؛ والخلق الحسن؛ منتصحا في ذلك بنصيحة ربه - عز وعلا -؛ حدث أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوحى الله إلى إبراهيم - عليه السلام -: (إنك خليلي؛ حسن خلقك؛ ولو مع الكفار؛ تدخل مداخل الأبرار؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه؛ أظله تحت عرشي؛ وأسكنه حظيرة القدس؛ وأدنيه جواري) ".

                                                          وإنه بعد أن نبه إلى أن الأوثان تتقاصر عن مقام الألوهية؛ بل حتى الإنسانية؛ بل الحيوانية أخذ يوجهه إلى الحق الكامل؛ فقال - في رفق أيضا؛ كما ابتدأ أولا؛ مصدرا القول بخطاب المحبة الراجية -:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية