الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الخامس في البينة

                                                                                                                                                                        أما صفة الشهود ، فسبق بيانها في الشهادات ، والمقصود هنا بيان حكم تعارض البينتين ، وتعارضهما قد يقع في الأملاك ، وقد يقع في غيرها ، كالعقود ، والموت ، والوصية ، ويشتمل الباب على أربعة أطراف :

                                                                                                                                                                        [ ص: 51 ] الأول في الأملاك ، فإذا تعارضتا فيه ، فإما أن يفقد أسباب الرجحان ، وإما لا ، القسم الأول أن يفقد ، فإما أن يكون المدعى في يد ثالث ، وإما في أيديهما ، ولا يدخل في هذا القسم ما إذا كان في يد أحدهما ؛ لأن ذلك من أسباب الرجحان .

                                                                                                                                                                        الحالة الأولى : إذا ادعى اثنان عينا في يد ثالث ، فلا يخفى أن المدعى عليه يحلف لكل واحد منهما يمينا إن ادعاها لنفسه ، ولا بينة لواحد منهما ، وأنه لو اختص أحدهما ببينة على ما يدعيه ، قضي له ، وإن أقام كل واحد بينة ، تعارضتا ، وفيهما قولان أظهرهما : يسقطان ، فكأنه لا بينة فيصار إلى التحليف ، والثاني : يستعملان ، فينتزع العين ممن هي في يده .

                                                                                                                                                                        ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال ، أحدها : تقسم العين المدعاة بينهما ، والثاني : توقف إلى تبين الأمر أو يصطلحا ، والثالث : يقرع ، فيأخذها من خرجت قرعته ، وهل يحتاج معها إلى يمين ؟ قولان ، أحدهما لا ، والقرعة مرجحة لبينته ، والثاني نعم ، والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين ، فعلى هذا يحلف من خرجت قرعته أن شهوده شهدوا بالحق ، ثم يقضى له ، ثم قيل القولان في الأصل فيما إذا لم تتكاذب البينتان صريحا ، فإن تكاذبتا سقطتا قطعا ، والأشهر طردهما في الحالين ، وصريح التكاذب أن لا يمكن الجمع بتأويل ، بأن شهدت إحداهما بقتله في وقت ، والأخرى بجناية في ذلك الوقت ، فإن أمكن الجمع بتأويل ، فليس تكاذبا بأن شهدت هذه أنه ملك زيد ، وهذه أنه ملك عمرو ، فإنه يحتمل أن كل واحدة علمت سببا ، كشراء ووصية ، واستصحب حكمه ، أو شهدت هذه بأنه أوصى به لزيد ، وهذه أنه [ ص: 52 ] أوصى به لعمرو ، فإنه يحتمل الإيصاء مرتين ، وقيل : القولان إذا لم يمكن الجمع ، فإن أمكن قسم قطعا ، وقيل : إن لم يمكن سقطتا قطعا وإلا استعملتا قطعا ، كما في الوصية . وقيل : يبقى قول التوقيف ، وقيل : لا تجتمع الأقوال الثلاثة بل موضع القسمة إذا أمكن الجمع ، والقرعة إذا لم يمكن ، والمذهب ما سبق ، فلو تنازعا في زوجية امرأة ، أقام كل واحد بينة ، وتعارضتا ، فقول السقوط بحاله ، ولا مجال للقسمة ، ولا للقرعة على الأصح ، ويجيء الوقف على الصحيح لو أقر صاحب اليد لأحدهما بعدما أقاما البينتين ، إن قلنا بالسقوط ، قبل إقراره ، وحكم به ، وإن قلنا بالاستعمال ، فوجهان ، أحدهما : يصير المقر له كصاحب يد ، فترجح بينته ، والثاني : لا ؛ لأن يده بعد البينة مستحقة الإزالة ، وإن أقر قبل تمام البينتين قبل إقراره قطعا ، وصار المقر له صاحب يد .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : أن تكون العين في يدهما وادعاها كل واحد ، فإن أقامتا بينتين ، فطريقان ، أحدهما - وبه قال الفوراني والغزالي - يجيء القولان في السقوط والاستعمال ، فإن أسقطنا بقي المال في أيديهما كما كان ، وإن استعملنا فعلى قول القسمة يجعل بينهما ، ولا يجيء الوقف ، وفي القرعة وجهان ، والثاني - وبه قال ابن الصباغ والبغوي - يجعل المال بينهما ؛ لأن بينة كل واحد ترجحت في النصف الذي في يده ، والحاصل للفتوى من الطريقين بقاء المال في يدهما كما كان ، ولو شهدت بينة كل واحد له بالنصف الذي في يد صاحبه ، حكم القاضي لكل منهما بما في يد صاحبه ، ويكون المال في يدهما أيضا ، كما كان ، لكن لا لجهة السقوط ، ولا بالترجيح باليد ، ثم قال الأئمة :

                                                                                                                                                                        [ ص: 53 ] من أقام البينة أولا ، وتعرض شهوده للكل ، لم يضر ، وإن كان صاحب يد في النصف الذي في يده ، وقلنا : بينة صاحب اليد لا تسمع ابتداء كما سيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى ؛ لأنه هنا غير مستغن عن البينة للنصف الذي يدعيه ، ثم إذا أقام الثاني البينة على الكل سمعت ، وترجحت بينته في النصف الذي في يده ، فيحتاج الأول إلى إعادة البينة للنصف الذي في يده ، وقال في " الوسيط " : لا يبعد أن يتساهل في الإعادة ، وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر ، قضي له بالكل ، سواء شهد شهوده بالكل ، أم بالنصف الذي في يد صاحبه ، وإن لم يكن لواحد منهما بينة ، فكل واحد مدع في نصف ، ومدعى عليه في نصف ، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر ، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه ، لإثبات ما في يده ، بل يقتصر على أنه لا حق لصاحبه فيما في يده ، نص عليه وهو المذهب ، ومنه خلاف سبق في باب التحالف في البيع ، فإن حلفا أو نكلا ترك المال في يدهما كما كان ، وإن حلف أحدهما دون الآخر ، قضى للحالف بالكل ، ثم إن حلف الذي بدأ القاضي بتحليفه ، ونكل الآخر بعده ، حلف الأول اليمين المردودة . وإن نكل الأول ، ورغب الثاني في اليمين ، فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه ، ويمين الإثبات للنصف الذي ادعاه هو ، فهل يكفيه الآن يمين واحد يجمع فيها النفي والإثبات أم لا بد من يمين للنفي ، وأخرى للإثبات ؟ وجهان ، أصحهما : الأول ، فيحلف أن الجميع له ، ولا حق لصاحبه فيه ، أو يقول : لا حق له في النصف الذي يدعيه ، والنصف الآخر لي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 54 ] فرع

                                                                                                                                                                        ادعى نصف دار ، وادعى آخر كلها ، وأقام كل واحد بينة ، والدار في يد ثالث ، تعارضتا في النصف ، فإن قلنا بالسقوط ، سقطتا في النصف الذي فيه التعارض ، وأما النصف الآخر ، ففيه طريقان ، قال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما : فيه قولا تبعيض الشهادة ، فإن بعضناها سلم ذلك النصف لمدعي الكل ، وإلا بطلت في ذلك النصف أيضا ، وصار كما لو لم تكن بينة ، والثاني - وبه قال الشيخ أبو حامد ، وصححه الشيخ أبو علي - : يسلم إليه النصف قطعا ، وإن قلنا بالاستعمال ، سلم النصف لمدعي الكل ، ويقسم النصف الآخر إن قلنا بالقسمة ، وإن قلنا بالقرعة أو بالوقف ، أقرع في النصف أو وقف ، ولو تداعيا كذلك ، والدار في يدهما ، فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده ، فإن أقام مدعي الكل بينة ، قضي له الكل ، وإن أقام كل واحد بينة بما يدعيه ، بقيت الدار في يدهما كما كانت . ولو ادعى أحدهما الكل ، والآخر الثلث ، فإن كان في يد ثالث ، فعلى قول السقوط تسقطان في الثلث . وهل تبطل بينة الكل في الثلثين ؟ فيه الطريقان السابقان ، وعلى الاستعمال تجري الأقوال الثلاثة ، وإن كانت في يدهما ، وأقام كل واحد بينة بما يدعي ، فلمدعي الثلث الثلث ، والباقي لمدعي الكل .

                                                                                                                                                                        دار في يد رجل ادعى زيد نصفها ، فصدقه ، وعمرو نصفها ، فكذبه صاحب اليد وزيد معا ، ولم يدعه أحد منهما لنفسه ، فالنصف [ ص: 55 ] الذي يدعيه المكذب هل يسلم إليه أم يوقف في يد صاحب اليد ، أم ينتزعه ويحفظ إلى ظهور مالكه ؟ فيه ثلاثة أوجه ، حكاها الفوراني .

                                                                                                                                                                        قلت : أقواها الثالث . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية