الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب من أحق بكفالة الطفل 2983 - ( عن البراء بن عازب : { أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد ، فقال علي : أنا أحق بها هي ابنة عمي ، وقال جعفر : بنت عمي وخالتها تحتي ، وقال [ ص: 389 ] زيد : ابنة أخي ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال : الخالة بمنزلة الأم } متفق عليه ، ورواه أحمد أيضا من حديث علي ، وفيه : { والجارية عند خالتها ، فإن الخالة والدة } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث علي رضي الله عنه أخرجه أيضا أبو داود والحاكم والبيهقي بمعناه قوله : ( وخالتها تحتي ) الخالة المذكورة : هي أسماء بنت عميس قوله : ( وقال زيد : ابنة أخي ) إنما سمى حمزة أخاه لأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبينه قوله : ( الخالة بمنزلة الأم ) فيه دليل على أن الخالة في الحضانة بمنزلة الأم ، وقد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن ، فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها من أمهات الأم وأقدم من الأب والعمات وذهبت الشافعية والهادي إلى تقديم الأب على الخالة

                                                                                                                                            وذهب الشافعي والهادوية إلى تقدم أم الأم وأم الأب على الخالة أيضا وذهب الناصر والمؤيد بالله وأكثر أصحاب الشافعي وهو رواية أبي حنيفة إلى أن الأخوات أقدم من الخالة والأولى تقديم الخالة بعد الأم على سائر الحواضن لنص الحديث وفاء بحق التشبيه المذكور وإلا كان لغوا وقد قيل : إن الأب أقدم من الخالة بالإجماع ، وفيه نظر ، فإن صاحب البحر قد حكى عن الإصطخري أن الخالة أولى منه ، ولم يحك القول بتقديم الأب عليها إلا عن الهادي والشافعي وأصحابه وقد طعن ابن حزم في حديث البراء المذكور بأن في إسناده إسرائيل ، وقد ضعفه علي بن المديني ورد عليه بأنه قد وثقه سائر أهل الحديث ، وتعجب أحمد من حفظه وقال : ثقة وقال أبو حاتم : هو أتقن أصحاب أبي إسحاق ، وكفى باتفاق الشيخين على إخراج هذا الحديث دليلا واستشكل كثير من الفقهاء وقوع القضاء منه صلى الله عليه وسلم لجعفر وقالوا : إن كان القضاء له فليس بمحرم لها ، وهو وعلي سواء في قرابتها ، وإن كان القضاء للخالة فهي مزوجة ، وسيأتي أن زواج الأم مسقط لحقها من الحضانة ، فسقوط حق الخالة بالزواج أولى وأجيب عن ذلك بأن القضاء للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع رضا الزوج كما ذهب إليه أحمد والحسن البصري والإمام يحيى وابن حزم وقيل : إن النكاح إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب ولا يسقط حق غيرها ولا حق الأم حيث كان المنازع لها غير الأب

                                                                                                                                            وبهذا يجمع بين حديث الباب وحديث { أنت أحق به ما لم تنكحي } الآتي ، وإليه ذهب ابن جريج

                                                                                                                                            2984 - ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : { أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وحجري له حواء ، وثديي له سقاء ، وزعم أبوه أنه ينزعه [ ص: 390 ] مني ، فقال : أنت أحق به ما لم تنكحي } رواه أحمد وأبو داود لكن في لفظه : { وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني } ) الحديث أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه ، وهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده

                                                                                                                                            قوله : ( وعاء ) بفتح الواو والمد وقد يضم : وهو الظرف ، وقرأ السبعة { قبل وعاء أخيه } بالكسر والحواء بكسر الحاء والمد : اسم لكل شيء يحوي غيره : أي يجمعه والسقاء بكسر السين : أي يسقى منه اللبن ومراد الأم بذلك أنها أحق به لاختصاصها بهذه الأوصاف دون الأب قوله : ( أنت أحق به ) فيه دليل على أن الأم أولى بالولد من الأب ما لم يحصل مانع من ذلك بالنكاح لتقييده صلى الله عليه وسلم للأحقية بقوله : " ما لم تنكحي " وهو مجمع على ذلك كما حكاه صاحب البحر ، فإن حصل منها النكاح بطلت حضانتها ، وبه قال مالك والشافعية والحنفية والعترة وقد حكى ابن المنذر الإجماع عليه

                                                                                                                                            وروي عن عثمان أنها لا تبطل بالنكاح ، وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم ، واحتجوا بما روي { أن أم سلمة تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبقي ولدها في كفالتها } وبما تقدم في حديث ابنة حمزة ويجاب عن الأول بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها وعن الثاني : بأن ذلك في الخالة ولا يلزم في الأم مثله وقد ذهب أبو حنيفة والهادوية إلى أن النكاح إذا كان بذي رحم محرم للمحضون لم يبطل به حق حضانتها وقال الشافعي : يبطل مطلقا لأن الدليل لم يفصل وهو الظاهر

                                                                                                                                            وحديث ابنة حمزة لا يصلح للتمسك به لأن جعفرا ليس بذي رحم محرم لابنة حمزة وأما دعوى دلالة القياس على ذلك كما زعمه صاحب البحر فغير ظاهرة وقد أجاب ابن حزم عن حديث الباب بأن في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولم يسمع أبوه من جده وإنما هو صحيفة كما سبق تحقيقه ورد بأن حديث عمرو بن شعيب قبله الأئمة وعملوا به وقد استدل لمن قال : بأن النكاح إذا كان بذي رحم للمحضون لم يبطل حق المرأة من الحضانة بما رواه عبد الرزاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن " أنها جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت { : إن أبي أنكحني رجلا لا أريده وترك عم ولدي فأخذ مني ولدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها ثم قال لها : اذهبي فانكحي عم ولدك } وهذا مع كونه مرسلا في إسناده رجل مجهول ولم يقع التصريح فيه بأنه أرجع الولد إليها عند أن زوجها بذي رحم له [ ص: 391 ]

                                                                                                                                            2985 - ( وعن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم { خير غلاما بين أبيه وأمه } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وفي رواية { : أن امرأة جاءت فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استهما عليه ، فقال زوجها : من يحاقني في ولدي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت ، فأخذ بيد أمه فانطلقت به } رواه أبو داود وكذلك النسائي ولم يذكر فقال : " استهما عليه " ولأحمد معناه لكنه قال فيه : جاءت امرأة قد طلقها زوجها ولم يذكر فيه قولها : قد سقاني ونفعني )

                                                                                                                                            2986 - ( وعن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده { : أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فجاء بابن له صغير لم يبلغ ، قال : فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم هاهنا ، ثم خيره وقال : اللهم اهده ، فذهب إلى أبيه } رواه أحمد والنسائي وفي رواية عن عبد الحميد بن جعفر قال : أخبرني أبي عن جدي { رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ابنتي وهي فطيم أو شبهه ، وقال رافع : ابنتي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقعد ناحية ، وقال لها : اقعدي ناحية ، فأقعد الصبية بينهما قال : ادعواها ، فمالت إلى أمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها } رواه أحمد وأبو داود وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري ) .

                                                                                                                                            حديث أبي هريرة رواه باللفظ الأول أيضا أبو داود ورواه بنحو اللفظ الثاني بقية أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن حبان وابن القطان وحديث عبد الحميد باللفظ الآخر أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده اختلاف كثير وألفاظه مختلفة ورجح ابن القطان رواية عبد الحميد بن جعفر وقال ابن المنذر : لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال ولكنه قد صححه الحاكم وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة اسمها عميرة قال ابن الجوزي : رواية من روى أنه كان غلاما أصح وقال ابن القطان لو صح رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان لاختلاف المخرجين قوله : ( خير غلاما . . . إلخ ) فيه دليل على أنه إذا تنازع الأب والأم في ابن لهما كان الواجب هو تخييره [ ص: 392 ] فمن اختاره ذهب به وقد أخرج البيهقي عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه وأخرج أيضا عن علي أنه خير عمارة الجذامي بين أمه وعمته ، وكان ابن سبع أو ثمان سنين ، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه وإسحاق بن راهويه وقال : أحب أن يكون مع الأم إلى سبع سنين ثم يخير

                                                                                                                                            وقيل : إلى خمس ، وذهب أحمد إلى أن الصغير إلى دون سبع سنين أمه أولى به وإن بلغ سبع سنين فالذكر فيه ثلاث روايات : يخير وهو المشهور عن أصحابه ، وإن لم يختر أقرع بينهما والثانية : أن الأب أحق به والثالثة : أن الأب أحق بالذكر والأم بالأنثى إلى تسع ثم يكون الأب أحق بها والظاهر من أحاديث الباب أن التخيير في حق من بلغ من الأولاد إلى سن التمييز هو الواجب من غير فرق بين الذكر والأنثى وحكى في البحر عن مذهب الهادوية وأبي طالب وأبي حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا تخيير ، بل متى استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والأم بالأنثى

                                                                                                                                            وعن مالك الأنثى للأم حتى تزوج وتدخل والأب له الذكر حتى يستغني وحد الاستغناء عند أبي حنيفة وأصحابه وأبي العباس وأبي طالب أن يأكل ويشرب ويلبس وعند الشافعي والمؤيد بالله والإمام يحيى : هو بلوغ السبع وتمسك النافون للتخيير بحديث { أنت أحق به ما لم تنكحي } ويجاب عنه بأن الجمع ممكن ، وهو أن يقال : المراد بكونها أحق به فيما قبل السن التي يخير فيها إلا فيما بعدها بقرينة أحاديث الباب قوله : ( استهما عليه ) فيه دليل على أن القرعة طريق شرعية عند تساوي الأمرين وأنه يجوز الرجوع إليها كما يجوز الرجوع إلى التخيير

                                                                                                                                            وقد قيل : إنه يقدم التخيير عليها وليس في حديث أبي هريرة المذكور ما يدل على ذلك بل ربما دل على عكسه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أولا بالاستهام ، ثم لما لم يفعلا خير الولد وقد قيل : إن التخيير أولى لاتفاق ألفاظ الأحاديث عليه وعمل الخلفاء الراشدين به قوله : ( من يحاقني ) الحقاق والاحتقاق : الخصام والاختصام كما في القاموس : أي من يخاصمني في ولدي قوله : ( فمالت إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهدها ) استدل بذلك على جواز نقل الصبي إلى من اختار ثانيا ، وقد نسبه صاحب البحر إلى القائلين بالتخيير

                                                                                                                                            واستدل بحديث عبد الحميد المذكور على ثبوت الحضانة للأم الكافرة لأن التخيير دليل ثبوت الحق ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم وأبو ثور وذهب الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم وأجابوا عن الحديث بما تقدم من المقال وبما فيه من الاضطراب ويجاب بأن الحديث صالح للاحتجاج به والاضطراب ممنوع باعتبار محل الحجة

                                                                                                                                            وأما احتجاجهم بمثل قوله تعالى: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وبنحو حديث : { الإسلام يعلو } فغير نافع لأنه عام وحديث الباب خاص [ ص: 393 ] واعلم أنه ينبغي قبل التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه مصلحة للصبي ، فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قدم عليه من غير قرعة ولا تخيير ، هكذا قال ابن القيم ، واستدل على ذلك بأدلة عامة نحو قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وزعم أن قول من قال بتقديم التخيير أو القرعة مقيد بهذا ، وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال : تنازع أبوان صبيا عند الحاكم ، فخير الولد بينهما فاختار أباه ، فقالت أمه : سله لأي شيء يختاره ؟ فسأله فقال : أمي تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني ، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان ، فقضى به للأم ، ورجح هذا ابن تيمية ، واستدل له بنوع من أنواع المناسب ، ولا يخفى أن الأدلة المذكورة في خصوص الحضانة خالية عن مثل هذا الاعتبار مفوضة حكم الأحقية إلى محض الاختيار ، فمن جعل المناسب صالحا لتخصيص الأدلة أو تقييدها فذاك ، ومن أبى ووقف على مقتضاها كان في تمسكه بالنص وموافقته له أسعد من غيره




                                                                                                                                            الخدمات العلمية