الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 69 ] النظر واجب شرعا . قال ابن القشيري : بالإجماع ; لأن الإجماع قام على وجوب معرفة الله ، ولا تحصل إلا بالنظر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الأصح : أن النظر لا يجب على المكلفين إلا أن يكونوا شاكين فيما يجب اعتقاده فيلزمهم البحث عنه ، والنظر فيه إلى أن يعتقدوه ، أو يعرفوه . قال : ومعرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وما يمتنع عليه يتعلق بالخاصة ، وهم قائمون به عن العامة لا في تعريف ذلك لهم ومن المشقة الظاهرة ، وإنما هم مكلفون باعتقاده ، وقال بعض نبلاء المتأخرين : هذا الذي قالوه من وجوب النظر مبني على أن كل إنسان ابتداء غير عارف بالله حتى ينظر ، ويستدل ، فيكون النظر أول الطاعات وهذا خلاف ما عليه السلف وجمهور أهل العلم ، بل الأمر بالعكس ، فإنه لا يوجد قط إنسان إلا وهو يعرف ربه عز وجل ، ولا يعرف له حال لم يكن فيها مقرا حتى ينظر ويستدل . اللهم إلا من عرض له ما أفسد فطرته ابتداء ، فيحتاج معه إلى النظر . نعم النظر الصحيح يقوي المعرفة ، ويثبتها فإن المعارف تزيد وتنقص على الأصح . قلت : وهذا جموح إلى أن المعرفة ضرورية لا نظرية ، والصحيح : [ ص: 70 ] الأول ، إذ لو كانت ضرورية لكان التكليف بها محالا ، ونحن مكلفون بمعرفته . قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } .

                                                      واعلم أنهم اختلفوا في الواجب الأول تفريقا على القول بوجوب معرفة الله تعالى على بضعة عشر قولا . أحدها : أن أول الواجبات العلم بالله ، وهو المنقول عن الشيخ أبي الحسن . والثاني : أنه النظر المؤدي إلى العلم بحدوث العالم ، ومعرفة الصانع ، وهو المنسوب إلى الأستاذ أبي إسحاق . والثالث : القصد إلى النظر الصحيح ، وهو اختيار الإمام في الإرشاد " . والرابع : أنه يجب الإيمان بالله ورسوله ، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى ذلك ، وهو اختيار أصحاب الحديث . والخامس : قول أبي هاشم الشك ، ونقل عن ابن فورك ; لامتناع النظر من العالم ، فإن الحاصل لا يتعلق به طلب ولا يمتنع من الشاك . وزيفه القاضي بأنه لا يمتنع في العقل الهجوم على النظر من غير سبق تردد . والسادس : الإقرار بالله ورسوله . والسابع : النطق بالشهادتين . والثامن : قبول الإسلام والعزم على العمل ، ثم النظر بعد القبول . [ ص: 71 ] والتاسع : اعتقاد وجوب التقليد ، والعاشر : التقليد . والحادي عشر : النظر ولا يجب إلا عند الشك مما يجب اعتقاده ، فيلزم البحث عنه حتى يعتقده . وهذه الأقوال ربما تتداخل وتختلف في العبارة .

                                                      وقال الرازي في التحصيل " الخلاف لفظي ، وذلك ; لأنه إن أريد بالواجب الواجب بالقصد الأول فلا شك في أنه المعرفة عند من يجعلها مقدورة والنظر عند من لا يجعلها مقدورة . وإن أريد من الواجب كيف كان ، فلا شك أنه القصد . قلت : بل معنوي تظهر فائدته في التعصية بترك النظر على من أوجبه دون من لا يوجبه وقال صاحب المواقف " إن قلنا : الواجب النظر فمن أمكنه زمان يسع النظر التام ، ولم ينظر فهو عاص ، ومن لم يمكنه أصلا ، فهو كالصبي . ومن أمكنه ما يسع لبعض النظر دون تمامه ففيه احتمال ، والأظهر : عصيانه كالمرأة تصبح طاهرة فتفطر ، ثم تحيض . فإنها عاصية ، وإن ظهر أنها لم يمكنها إتمام الصوم .

                                                      وقال ابن فورك : بسبب هذا الخلاف اختلافهم في المعرفة أهي ضرورية أو كسبية ؟ فمن قال : ضرورية قال : أول فرض الإقرار بالله ، ومن قال : كسبية قال : أول فرض النظر والاستدلال المؤديان إلى المعرفة ، وقال ابن السمعاني في القواطع " في أول الكلام على القياس : أنكر [ ص: 72 ] أهل الحديث ، وكثير من الفقهاء قول أهل الكلام : إن أول واجب النظر ، وقالوا : إن أول واجب معرفة الله على ما وردت به الأخبار . ولو قال الكافر : أمهلوني ; لأنظر فأبحث فإنه لا يمهل ، ولا ينظر ، ولكن يقال له : أسلم في الحال ، وإلا فأنت معروض على السيف . قال : ولا أعرف في ذلك خلافا بين الفقهاء ، وقد نص عليه ابن سريج : انتهى ، وهو عجيب ، فقد حكوا في كتاب الردة وجهين فيما إذا تعين قتل المرتد ، فقال : عرضت لي شبهة فأزيلوها ; لأعود إلى ما كنت عليه . هل يناظر لإزالتها ؟ فيه وجهان . وقال : القاضي أبو يعلى في المعتمد " : إذا ترك المكلف أول النظر فإنه يستحق العقاب عليه ، وعلى ترك ما بعده ، ويجوز أن يعاقب على ترك النظر الأول عقابا أعظم من عقاب ترك النظر الثاني : ويجوز أن يكون مثله خلافا للمعتزلة في قولهم : إنما يعاقب على ترك فعل الأول غير أن عقابه عظيم يجري مجرى العقاب على ترك كل النظر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية