الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تنبيه

من بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة ، وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) ( الآية : 34 ) ثم قال في سورة النحل : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) ( 18 ) .

قال القاضي ناصر الدين بن المنير في " تفسيره الكبير " : كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : كونك ظلوما ، وكونك كفارا ، ولي عند إعطائها وصفان ، وهما : أني غفور رحيم ، أقابل ظلمك بغفراني ، وكفرك برحمتي ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء . انتهى .

وهو حسن ، لكن بقي سؤال آخر ؛ وهو : ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف النعيم ، وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه ؟ والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه ، فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه . وأما آية النحل فسيقت في [ ص: 177 ] وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته ، فناسب ذكر وصفه سبحانه ، فتأمل هذه التراكيب ما أرقاها في درجة البلاغة !

ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) [ 15 ] وفي فصلت : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) [ 46 ] .

وحكمة فاصلة الأولى أن قبلها : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) ( الجاثية : 14 ) فناسب الختام بفاصلة البعث ; لأن قبله وصفهم بإنكاره ، وأما الأخرى فالختام بها مناسب ، أي لأنه لا يضيع عملا صالحا ، ولا يزيد على من عمل شيئا .

ونظيره قوله في سورة النساء : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ( الآية : 48 ) ختم الآية مرة بقوله : ( فقد افترى إثما عظيما ) ( الآية : 48 ) ، ومرة بقوله : ( ضلالا بعيدا ) ( الآية : 116 ) لأن الأول نزل في اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه ، والثاني نزل في الكفار ، ولم يكن لهم كتاب ، وكان ضلالهم أشد .

وقوله في المائدة : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) ( الآيات : 44 - 45 - 46 ) ، فذكرها ثلاث مرات ، وختم الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين ، فقيل : لأن الأولى نزلت في أحكام المسلمين ، والثانية نزلت في أحكام اليهود ، والثالثة نزلت في أحكام النصارى .

وقيل : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) إنكارا له فهو كافر ، ومن لم يحكم بالحق مع اعتقاد الحق ، وحكم بضده فهو ظالم ، ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم بضده فهو فاسق .

وقيل : الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد ، وهو الكفر ، عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار ، وقيل غير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية