الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إن المنافقين يخادعون الله هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم ، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ومعنى كون الله خادعهم ؛ أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه ، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا ، فعصم به أموالهم ودماءهم ، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة ، فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار ، قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه ، و ( الكسالى ) بضم الكاف جمع كسلان ، وقرئ بفتحها ، والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا ، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ، وقد تقدم بيانه ، والمراءاة المفاعلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولا يذكرون الله إلا قليلا معطوف على ( يراءون ) أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص ، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلا في نفسه ؛ لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء ، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص ، قوله : مذبذبين بين ذلك المذبذب المتردد بين أمرين ، والذبذبة الاضطراب ، يقال : ذبذبه فتذبذب ، ومنه قول النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب



                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جني : المذبذب : القلق الذي لا يثبت على حال ، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر ، قال في الكشاف : وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين ؛ أي : يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرجوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى ، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين ، وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية ، وفي حرف أبي ( متذبذبين ) وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين ، وانتصاب مذبذبين إما على الحال أو على الذم ، والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر ، قوله : لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ومحل الجملة النصب على الحال ، أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له ومن يضلل الله أي : يخذله ويسلبه التوفيق فلن تجد له سبيلا أي : طريقا يوصله إلى الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي : لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ؛ أي : أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قرأ الكوفيون الدرك [ ص: 339 ] بسكون الراء ، وقرأ غيرهم بتحريكها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو علي : هما لغتان والجمع أدراك ، وقيل : جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال ، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس ، قال النحاس : والتحريك أفصح .

                                                                                                                                                                                                                                      والدرك : الطبقة ، والنار دركات سبع ، فالمنافق في الدرك الأسفل منها ، وهي الهاوية ، لغلظ كفره وكثرة غوائله ، وأعلى الدركات جهنم ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، أعاذنا الله من عذابها ولن تجد لهم نصيرا يخلصهم من ذلك الدرك ، والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الذين تابوا استثناء من المنافقين ؛ أي : إلا الذين تابوا عن النفاق وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم وأخلصوا دينهم لله أي : جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره ، والاعتصام بالله : التمسك به والوثوق بوعده ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة ، قوله : مع المؤمنين قال الفراء : أي من المؤمنين ؛ يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القتيبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : فأولئك مع المؤمنين ولم يقل : هم المؤمنون انتهى . والظاهر أن معنى مع معتبر هنا ؛ أي : فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال : وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله يوم يدع الداع و سندع الزبانية يوم يناد المناد ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين ، قوله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة ، والمعنى ؛ أي : منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ، فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه وكان الله شاكرا عليما أي : يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم ، والشكر في اللغة : الظهور ، يقال : شكور إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : إن المنافقين يخادعون الله الآية ، قال : يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم . وأخرج ابن جرير ، عن السدي نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير نحوه أيضا ، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير ، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج في الآية قال : نزلت في عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق ، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : مذبذبين بين ذلك قال : هم المنافقون لا إلى هؤلاء يقول : لا إلى أصحاب محمد ولا إلى هؤلاء اليهود ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا قال : إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذرا مبينا . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن مسعود في قوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، وفي لفظ مبهمة عليهم ؛ أي : مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة نحوه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن ابن مسعود نحوه أيضا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم الآية ، قال : إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية