الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 286 ] الصنف الخامس في أدلة تخصيص العموم

          وهي قسمان : متصلة ومنفصلة

          القسم الأول : في الأدلة المتصلة

          وهي أربعة أنواع : الاستثناء ، والشرط ، والصفة ، والغاية

          النوع الأول : الاستثناء

          وفيه مقدمة ومسائل : أما المقدمة ففي معنى الاستثناء وصيغه وأقسامه .

          أما الاستثناء : فقال الغزالي : هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول ، وهو باطل من وجهين : الأول : أنه ينتقض بآحاد الاستثناءات كقولنا : جاء القوم إلا زيدا ، فإنه استثناء حقيقة ، وليس بذي صيغ ، بل صيغة واحدة وهي إلا زيدا .

          الثاني : أنه يبطل بالأقوال الموجبة لتخصيص العموم الخارجة عن الاستثناء ، فإنها صيغ مخصوصة وهي محصورة لاستحالة القول بعدم النهاية في الألفاظ الدالة ، وهي دالة على أن المذكور بها لم يرد بالقول الأول ، وليست من الاستثناء في شيء ، وذلك كما لو قال القائل : رأيت أهل البلد ، ولم أر زيدا ، واقتلوا المشركين ، ولا تقتلوا أهل الذمة ، ومن دخل داري فأكرمه ، والفاسق منهم أهنه ، وأهل البلد كلهم علماء وزيد جاهل ، إلى غير ذلك .

          وقال بعض المتبحرين من النحاة : الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ ( إلا ) أو ما يقوم مقامه ، وهو منتقض بقول القائل : رأيت أهل البلد ولم أر زيدا ، فإنه قائم مقام قوله : إلا زيدا في إخراج بعض الجملة عن الجملة ، وليس باستثناء .

          [ ص: 287 ] وقيل : إنه عبارة عما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظ ( إلا ) ولا يستقل بنفسه ، وهو أيضا مدخول من وجهين : الأول : أن الاستثناء لا لإخراج بعض الكلام ، وإنما يكون إخراجا لبعض ما دل عليه الكلام الأول ، وفرق بين الأمرين .

          الثاني : أنه لو قال القائل : جاء القوم غير زيد ، فإنه استثناء مع أن لفظة ( غير ) قد وجد فيها جميع ما ذكروه من القيود سوى قوله : لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه .

          فإن ( غير ) قد يدخل في الكلام لغرض النعتية إذا لم يجز في موضعها ( إلا ) كقولك : عندي درهم غير جيد ، فإنه لا يحسن أن تقول في موضعها : عندي درهم إلا جيدا فلا جرم كانت نعتا للدرهم وتابعة له في إعرابه .

          وهذا بخلاف ما إذا قلت : عندي درهم غير قيراط ، فإن ( غير ) تكون استثنائية منصوبة لإمكان دخول ( إلا ) في موضعها .

          ويمكن أن يقال هاهنا : إن النعتية ليست استثنائية فلا ترد على الحد .

          والمختار في ذلك أن يقال : الاستثناء عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف ( إلا ) أو أخواتها على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ، ليس بشرط ولا صفة ولا غاية .

          فقولنا : ( لفظ ) احتراز عن الدلالات العقلية والحسية الموجبة للتخصيص .

          وقولنا : ( متصل بجملة ) احتراز عن الدلائل المنفصلة .

          وقولنا : ( ولا يستقل بنفسه ) احتراز عن مثل قولنا : قام القوم وزيد لم يقم ، وقولنا : ( دال ) احتراز عن الصيغ المهملة .

          وقولنا : ( على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ) احتراز عن الأسماء المؤكدة والنعتية .

          كقول القائل : جاءني القوم العلماء كلهم .

          وقولنا : ( بحرف ( إلا ) أو أخواتها ) احتراز عن قولنا : قام القوم دون زيد ، وفيه احتراز عن أكثر الإلزامات السابق ذكرها .

          وقولنا : ( ليس بشرط ) احتراز عن قول القائل لعبده : من دخل داري فأكرمه إن كان مسلما ، وقولنا : ( ليس بصفة ) احتراز من قول القائل : جاءني بنو تميم الطوال .

          [ ص: 288 ] وقولنا : ( ليس بغاية ) احتراز عن قول القائل لعبده : ( أكرم بني تميم أبدا إلى أن يدخلوا الدار ) وهذا الحد مطرد منعكس لا غبار عليه .

          وإذا عرف معنى الاستثناء فصيغه كثيرة ، وهي إلا وغير وسوى وخلا وحاشا وعدا وما عدا وما خلا ، وليس ولا يكون ونحوه .

          وأم الباب في هذه الصيغ ( إلا ) لكونها حرفا مطلقا ، ولوقوعها في جميع أبواب الاستثناء لا غير .

          ولها أحكام مختلفة في الإعراب مستقصاة في كتب أهل الأدب ، لا مناسبة لذكرها فيما نحن فيه كما قد فعله من غلب عليه حب العربية .

          وهو منقسم إلى الاستثناء من الجنس ، ومن غير الجنس كما يأتي تحقيقه عن قريب إن شاء الله - تعالى - .

          ويجوز أن يكون متأخرا عن المستثنى منه كما ذكرناه من الأمثلة ، وأن يكون متقدما عليه مع الاتصال كقولك : خرج إلا زيدا القوم ، ومنه قول الكميت :

          فما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهب

          .



          [1] ويجوز الاستثناء من الاستثناء من غير خلاف كقول القائل : له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا اثنين ، ويدل عليه قوله - تعالى - : ( إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) إلى قوله : ( إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ) استثنى آل لوط من أهل القرية ، واستثنى المرأة من الآل المنجين من الهلاك .

          وهذا ما أردنا ذكره من المقدمة .

          وأما المسائل فخمس :

          التالي السابق


          الخدمات العلمية