الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 54 ] قوله تعالى: كلا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا . وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء . وكان أبو حاتم يقول: " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى " حقا " إن كتاب الفجار قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لفي سجين وفيها أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل . وروي عن مجاهد قال: " سجين " صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: لفي حبس، فعيل من السجن، قاله أبو عبيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وما أدراك ما سجين هذا تعظيم لأمرها . وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: كتاب مرقوم أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب [ ص: 55 ] مرقوم، أي: مكتوب . قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب . قال أبو ذؤيب:


                                                                                                                                                                                                                                      عرفت الديار كرقم الدوا ة يزبره الكاتب الحميري



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشده الزجاج: " يذبرها " بالذال المعجمة، وكسر الباء . قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ . وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي- كتبت . وذبرت بالذال- أتقنت ما حفظت . قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم . وقال ابن قتيبة: يروى " يزبرها " و " يذبرها " وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويزبره . وذبره يذبره، ويذبره . وقال قتادة: رقم له بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر . وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ويل يومئذ للمكذبين هذا منتظم بقوله تعالى: يوم يقوم الناس ، وما بينهما كلام معترض . وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: بل ران على قلوبهم قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: " بل ران " بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم: " بل ران " مدغمة بكسر الراء . وقرأ حفص عن عاصم " بل " بإظهار اللام " ران " بفتح الراء . قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران . قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى . ويقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا: إذا [ ص: 56 ] غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدإ يغشى على القلب . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن " كلا بل ران " وفي الحديث: " إنه ليغان على قلبي " وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب " بالغين " ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما . قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم . قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: كلا أي: لا يصدقون . ثم استأنف إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته . وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى . وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى [ ص: 57 ] في القيامة . ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم . ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى: ثم إنهم لصالو الجحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثم يقال أي: يقول لهم خزنة النار: هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون كلا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: لفي عليين وفيها سبعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة . وقال مقاتل: ساق العرش .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن . وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع .

                                                                                                                                                                                                                                      والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وما أدراك ما عليون هذا تعظيم لشأنها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: كتاب مرقوم الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 58 ] قوله تعالى: يشهده المقربون أي: يحضر المقربون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: ينظرون وفيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: إلى أعدائهم حين يعذبون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقرأ أبو جعفر، ويعقوب " تعرف " بضم التاء، وفتح الراء " نضرة " بالرفع . قال الفراء: بريق النعيم ونداه . قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور . وفي " الرحيق " ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور . ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال . أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد . والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش . والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل . والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج . وفي قوله تعالى: مختوم ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 59 ] والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: ختامه مسك، أي: عاقبته . هذا قول أبي عبيدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ختامه مسك قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة " ختامه " بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعة الميم . وقرأ الكسائي " خاتمه " بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة . وروى الشيزري " خاتمه " مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء . وقرأ أبي بن كعب، وعروة، وأبو العالية: " ختمه " بفتح الخاء والتاء و [بضم] الميم من غير ألف .

                                                                                                                                                                                                                                      وللمفسرين في قوله تعالى: ختامه مسك أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، [قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أن آخر طعمه مسك] قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أي: فليجدوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله . والتنافس: كالتشاح على الشيء، والتنازع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ومزاجه من تسنيم فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 60 ] أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك . قال مقاتل: وإنما سمي تسنيما، لأنه يتسنم عليه من جنة عدن، فينصب عليهم انصبابا، فيشربون الخمر من ذلك الماء . قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة . ويقال: إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم، أي: من علو . وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور . وهذا أعجب إلي، لقول المسيب بن علس في وصف امرأة:


                                                                                                                                                                                                                                      كأن بريقتها للمزا     ج من ثلج تسنيم شيبت عقارا



                                                                                                                                                                                                                                      أراد: كأن بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلا . قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يتسنم عليهم من الغرف . فـ " عينا " في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما [البلد: 15] . ويجوز أن تكون " عينا " منصوبة بقوله: يسقون عينا، أي: من عين . وقد بينا معنى " يشرب بها " في [هل أتى: 6] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية