الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وكل ما لم يجز التفاضل فيه فالقسم فيه كالبيع " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف قول الشافعي في القسمة على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها بيع .

                                                                                                                                            والثاني : أنها إفراز حق وتمييز نصيب .

                                                                                                                                            [ ص: 127 ] وإنما اختلف قوله فيها لاختلاف قوله في خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمار المدينة وأعناب الطائف ، فهل كان لمعرفة قدر الزكاة أو لإفراز حقوق أهل السهمان ؟ فإذا قيل خرصها لمعرفة قدر الزكاة فيها ، وإنما كان إفراز الحق تبعا لمعرفتها .

                                                                                                                                            فعلى هذا القول لا تجوز قسمة الثمار خرصا وتكون القسمة بيعا .

                                                                                                                                            وإذا قيل إنما خرصها لإفراز حق أهل السهمان منها ، جاز قسمة الثمار خرصا ، وكانت القسمة إفراز حق وتمييز نصيب .

                                                                                                                                            فإذا قيل إن القسمة بيع ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأشهر القولين فوجهه :

                                                                                                                                            أن الشريكين في الدار كل جزء منها بينهما نصفان . فإذا اقتسما فأخذ أحدهما مقدم الدار ، وأخذ الآخر مؤخرها ، صار صاحب المقدم بائعا لحصته من مؤخر الدار بحصة شريكه من مقدمها : لأنه نقل ملك بملك وهذا هو البيع المحض .

                                                                                                                                            وإذا قيل إن القسمة إفراز حق وتمييز نصيب فوجهه أربعة أشياء : أحدها : أن القسمة لما خالفت البيع في الاسم وجب أن تخالف البيع في الحكم : لأن اختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني .

                                                                                                                                            والثاني : أن القسمة لما دخلها الجبر والإكراه ، ولم يصح البيع مع الجبر والإكراه ، دل على اختلافهما وعدم التسوية بين حكميهما .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما صح دخول القرعة في تعيين الملك بالقسمة ، ولم يصح دخول القرعة في تعيين الملك بالبيع حتى يكون معينا بالعقد ، دل على أن القسمة مخالفة للبيع .

                                                                                                                                            والرابع : أنه لما كان من أحكام البيع استحقاق الشفعة وضمان الدرك ، وانتفى عن القسمة استحقاق الشفعة وضمان الدرك ، دل على تنافي حكميهما وعدم الجمع بينهما .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر توجيه القولين ، فإذا قيل إن القسمة بيع ، فلا يخلو حال الجنس الذي يريد الشريكان قسمته من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون مما فيه الربا أم لا .

                                                                                                                                            فإن لم يكن فيه الربا كالثياب والحيوان والصفر والنحاس ، جاز لهما أن يقتسماه ، كيف شاءا ، وزنا وعددا وجزافا ومتفاضلا : لأن التفاضل في بيع ما لا ربا فيه جائز ، ويجوز اشتراط الخيار فيه .

                                                                                                                                            وإن كان مما فيه الربا فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون جنسا يجوز بيع بعضه ببعض كالحنطة . فلا يجوز أن يقتسماه إلا كيلا متساويا ويتقابضا قبل التفرق ، ولا يصح منهما اشتراط الخيار فيه ، ولا يثبت لهما خيار المجلس ، فتكون صحة هذه القسمة معتبرة بخمسة شروط :

                                                                                                                                            [ ص: 128 ] أحدها : أن يقتسماه كيلا : لأن الحنطة الأصل فيها الكيل ، وإن اقتسماه وزنا لم يجز إلا أن يكون جنسا أصله الوزن ، فإن اقتسماه كيلا لم يجز .

                                                                                                                                            وإذا كانت الصبرة بينهما نصفين أخذ هذا قفيزا وأخذ صاحب الثلث قفيزا .

                                                                                                                                            وإن كانت بينهما أثلاثا أخذ صاحب الثلثين قفيزين وأخذ صاحب الثلث قفيزا .

                                                                                                                                            ولا يجوز لأحدهما أن يستوفي جميع حصته من الصبرة ، ثم يكتال الآخر ما بقي لجواز أن يتلف الباقي قبل أن يكتاله الشريك الآخر .

                                                                                                                                            ولأنهما قد استويا في الملك فوجب أن يستويا في القبض .

                                                                                                                                            فإن اتفقا على المبتدئ منهما بأخذ القفيز الأول ، وإلا أقرع بينهما في أخذه ، ويكون استقرار ملك الأول على ما أخذه موقوفا على أن يأخذ الآخر مثله .

                                                                                                                                            فلو أخذ الأول قفيزا فهلكت الصبرة قبل أن يأخذ الثاني مثله ، لم يستقر ملك الأول على القفيز ، وكان الثاني شريكا له فيه : ليملك كل واحد منهما بالقسمة مثل ما ملكه صاحبه ، فهذا أحد الشروط وفروعه .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يتساويا في قبض حقوقهما من غير تفاضل ، وإذا كانت الصبرة بينهما نصفين لم يجز أن يزداد أحدهما على أخذ النصف شيئا ولا أن ينقص منه شيئا : لأنه إن ازداد أو نقص صار بائعا للطعام بالطعام متفاضلا وذلك حرام .

                                                                                                                                            وكذلك لا يجوز أن يأخذ أحدهما نصف الصبرة وثوبا ، أو يأخذ الآخر نصفها ويعطي ثوبا ، لحصول التفاضل فيه .

                                                                                                                                            فإن كانت الصبرة بينهما أثلاثا اقتسماها كذلك ، فأخذ صاحب الثلثين ثلثي الصبرة من غير أن يزداد شيئا أو ينقص .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا يوقع تفاضلا في بيع الطعام بالطعام . قيل : التساوي بينهما معتبر بقدر الحق لا بالتماثل في القدر .

                                                                                                                                            فإذا أخذ كل واحد منهما قدر حقه فقد تساويا وإن كانت الحقوق متفاضلة بخلاف البيع المبتدأ .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن يكون كل واحد منهما أو وكيله قابضا ومقبضا : لأن له حقا وعليه حقا . فله قبض حقه وعليه إقباض حق شريكه ، فإن قبض عن نفسه من غير إقباض الشريك حقه لم يجز ، وإن أقبض شريكه حقه من غير قبض حق نفسه لم يجز : لأنها مناقلة بين متعاوضين فلزم فيها القبض والإقباض معا .

                                                                                                                                            فلو أذن أحدهما لشريكه في القبض له والإقباض عنه لم يجز ، لأنه يصير قابضا من نفسه ومقبضا عنها .

                                                                                                                                            [ ص: 129 ] وكذا لو أذن كل واحد لزيد في القبض له والإقباض عنه لم يجز حتى يتولى القبض والإقباض اثنان .

                                                                                                                                            والشرط الرابع : أن يتقابضا قبل التفرق وقبضهما بالكيل وحده دون التحويل بخلاف البيع .

                                                                                                                                            والفرق بين البيع حيث كان التحويل في قبضه معتبرا وبين القسمة حيث لم يكن التحويل في قبضها معتبرا . أن المبيع مضمون على بائعه باليد ، فاعتبر في قبضه التحويل لترتفع اليد فيسقط الضمان ، وليس في القسمة ضمان يسقط بالقبض ، وإنما هي موضوعة للإجازة ، وبالكيل دون التحويل تقع الإجازة .

                                                                                                                                            فلو تقابضا بعض الصبرة ولم يتقابضا باقيها حتى افترقا صحت القسمة فيما تقابضا قولا واحدا ، إذا صار إلى كل واحد من حقه مثل ما صار إلى صاحبه ، وكانت الشركة بينهما فيما بقي من الصبرة على ما كانت عليه من الإشاعة .

                                                                                                                                            والشرط الخامس : وقوع القسمة ناجزة من غير خيار يستحق فيها . لا خيار الثلاث بالشرط ، ولا خيار المجلس المستحق في البيع .

                                                                                                                                            أما خيار المجلس فلأنه موضوع في البيع لاستدراك الغبن مع بقايا أحكام العقد قبل الافتراق ، وليست هذه القسمة - وإن كانت بيعا مثله : لأن المحاباة والغبن قد انتفيا عنها ، ولم يبق بعد الإجازة للقسمة حكم في الشركة فيثبت الخيار فيها . فبهذين سقط خيار المجلس .

                                                                                                                                            فأما خيار الثلاث فهو أسقط : لأن خيار المجلس أثبت في العقود من خيار الثلاث ، فإذا سقط خيار المجلس فأولى أن يسقط خيار الثلاث .

                                                                                                                                            فهذه خمسة شروط معتبرة في قسم هذا الضرب ، وهو ما يجوز بيع بعضه ببعض .

                                                                                                                                            فأما الضرب الثاني ، وهو ما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب ، والعنب ، والبقول ، والخضر ، فلا يصح أن يقتسمه الشريكان كيلا ، ولا وزنا ، ولا جزافا ، على هذا القول : لتحريم بيع بعضه ببعض .

                                                                                                                                            والوجه في ارتفاع الشركة بينهما فيه ، صنف من البيوع .

                                                                                                                                            وهو أن يجعلا ذلك حصتين متميزتين ، ثم يبيع أحدهما حقه من إحدى الحصتين على شريكه بدينار ، ويبتاع منه حقه من الحصة الأخرى بدينار .

                                                                                                                                            فتصير إحدى الحصتين بكمالها لأحد الشريكين وعليه دينار ، والحصة الأخرى بكمالها للشريك الآخر وعليه دينار .

                                                                                                                                            ثم يتقابضان الدينار بالدينار ، فيكون هذا بيعا يجري عليه جميع أحكام البيوع المشاعة .

                                                                                                                                            [ ص: 130 ] فهذا جملة الكلام في القسمة إذا قيل إنها بيع .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا قيل إنها إفراز حق وتمييز نصيب ، جاز لهما أن يتقاسما كل جنس بينهما مما فيه الربا أو لا ربا فيه كيف شاءا كيلا ووزنا وجزافا .

                                                                                                                                            فإن كان ذلك مما يختلف أجزاؤه كالثياب والحيوان ، فلا بد من اجتماعهما على القسمة حتى يكون كل واحد منهما قابضا ومقبضا .

                                                                                                                                            فإذا انفرد أحدهما بأخذ حصته لم يجز ، وكان ما أخذه بينه وبين شريكه وعليه ضمان حصة شريكه منه ، وما بقي أيضا بينه وبين شريكه ، لكن لا يضمن حصة شريكه منه .

                                                                                                                                            وإن كان ذلك مما يتماثل أجزاؤه ولا يختلف كالحبوب والأدهان جاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن ما يختلف أجزاؤه يحتاج إلى اجتهاد في استيفاء الحق ، ونظر في طلب الأحظ فلم يجز أن ينفرد أحدهما بالقسمة وإن أذن له الشريك .

                                                                                                                                            وليس كذلك ما كانت أجزاؤه متماثلة : لأن الحق فيه مقدر لا يفتقر إلى اجتهاد في استيفائه ولا إلى نظر في طلب الأحظ في أخذه ، فجاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه ، فإن استفضل أكثر من حقه وبان وظهر ، رجع عليه بما استفضل ، ولا يجوز على القول الأول فيما تماثلت أجزاؤه أن ينفرد أحدهما بالقسمة عن إذن شريكه ، وإن جاز على هذا القول .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أنه على القول الأول بيع ، والبيع لا يجوز أن ينفرد به أحدهما . وهو على هذا القول إفراز حق لا يمتنع أن ينفرد به أحدهما .

                                                                                                                                            فعلى هذا القول لو انفرد أحد الشريكين بأخذ حقه من غير إذن شريكه ، ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأن لشريكه حق الإشاعة فلم يسقط إلا بإذن .

                                                                                                                                            فعلى هذا يكون ما أجازه الشريك مشاعا ، وهو ضامن لحصة شريكه منه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز : لأنه لو استأذنه لم يكن له أن يمنعه ، فجاز إذا استوفى قدر حقه ألا يستأذنه . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية