الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقرآنا نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى: فرقناه فهو من باب الاشتغال ورجح النصب على [ ص: 188 ] الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: هو مذهب سيبويه، وقال الفراء: هو منصوب ب «أرسلناك» أي ما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في: ( أرسلناك ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه ( آتينا ) السابق أو أرسلناك وجملة فرقناه في موضع الصفة له أي: آتيناك قرآنا فرقناه؛ أي: أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس «بينا» حلاله وحرامه، وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه: «فرقناه» بشد الراء، ومعناه كالمخفف؛ أي: أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق، وقيل: فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي: على مكث يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل: معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي، والجمهور على الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية: في ثلاث وعشرين سنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي أخرى في خمس وعشرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنه صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول: أنزل الله القرآن على نبي الله صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعدما هاجر.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن، واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل: خمس آيات خمس آيات، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات، وكان المراد في الغالب؛ فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي وعبد الله: «فرقناه عليك لتقرأه على الناس على مكث» أي: تؤدة وتأن؛ فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: أي تطاول في المدة وتقضيها شيئا فشيئا، والظاهر [ ص: 189 ] تعلق لتقرأه ب «فرقناه» وعلى الناس ب «تقرأه» و «على مكث» به أيضا، إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد. وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق، وفي البحر لا يبالى بتعلق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما؛ لأن الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي: متمهلا مترسلا، ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه ب «فرقناه»، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف؛ أي: تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله، وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في «فرقناه» أي: متمكثا، ومن العجيب قول الحوفي إنه بدل من على الناس وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن على مكث من صفات القارئ أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا منهم، والمكث مثلث الميم، وقرئ بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر، وهو لغة قليلة، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم.

                                                                                                                                                                                                                                      ونزلناه تنزيلا على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى: فرقناه إلخ مفيد؛ وذلك لأن الأول دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك، وهذا أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قل للذين كفروا آمنوا به أي: بالقرآن أو لا تؤمنوا أي: به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء؛ لأن إيمانكم لا يزيده كمالا وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين أوتوا العلم من قبله أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إذا يتلى أي القرآن عليهم يخرون للأذقان الخرور السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل: وهو المراد، وروي عن ابن عباس فكأنه قيل: يسقطون بسرعة على وجوههم سجدا تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك، والظاهر أن هنا «خروا» و «سجودا» على الحقيقة، وقيل: لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع، فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال: وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه، وقيل: فيه نظر؛ لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء، وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو أنه ربما خروا على الذقن كالمغشى عليهم لخشية الله تعالى، وقيل: لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب الفرائد: المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا، واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص، وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة، وحقق ذلك بما لا مزيد عليه، واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله: إن الذقن أول ما يلقى الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر [ ص: 190 ] وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به؛ إذ هو لا يكون لغيره يخرون للأذقان يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم؛ فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار بعضهم كون اللام بمعنى على، وزعم بعض عود ضميري «به» و «قبله» على النبي صلى الله عليه وسلم ويأباه السباق واللحاق.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير ( يتلى ) لكتابهم، ولا يخفى حاله، والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية