الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            (حفظ المنطق) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقل ابن آدم وا خيبة الدهر إني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما .

                                                            وعن سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .

                                                            التالي السابق


                                                            (حفظ المنطق) (الحديث الأول) عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يقولن أحدكم يا خيبة [ ص: 155 ] الدهر فإن الله هو الدهر وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقل ابن آدم : يا خيبة الدهر إني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما وعن سعيد عن أبي هريرة قال : قال النبي : صلى الله عليه وسلم يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه من الطريق الأولى مسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وأخرجه من الطريق الثالثة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من طريق سفيان بن عيينة ومسلم وحده من طريق معمر ، كلاهما عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة ، واتفق عليه الشيخان والنسائي من طريق يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ابن عبد البر وهما جميعا صحيحان ، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر . وقال ابن عبد البر لما ذكر الرواية الأولى : هكذا هذا الحديث في الموطإ بهذا الإسناد عن جماعة الرواة فيما علمت ، ورواه إبراهيم بن خالد بن عثمة عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة ، والصواب فيه إسناد الموطإ قال وفي الموطإ عن جماعة رواية في هذا الحديث : لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر وقال فيه سعيد بن هشام بإسناد الموطإ : لا تسبوا الدهر وقال فيه يحيى فإن الدهر هو الله ، وغيره يقول فإن الله هو الدهر وهذا الحديث قد اختلف في [ ص: 156 ] ألفاظه عن أبي هريرة ، والصحيح في لفظه ما رواه ابن شهاب وغيره من الفقهاء ذوي الألباب انتهى .

                                                            (الثانية) الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان الياء المثناة من تحت ، بعدها باء موحدة الحرمان والخسران وعدم نيل المطلوب ، فقول القائل : يا خيبة الدهر أو وا خيبة الدهر ، وهو منصوب على الندبة وهي نداء متفجع عليه حقيقة أو حكما أو متوجع منه ، كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه من الأمور التي يكرهها فندبه .



                                                            (الثالثة) فيه النهي عن هذا الكلام وقد كان أهل الجاهلية يستعملون مثل ذلك ومن عقيدة بعضهم أن الزمان هو الفاعل حقيقة لتعطيلهم ونفيهم الإله ، واستعمل السلاميون قريبا من ذلك غير قاصدين به ذلك ، ولكنهم يذمون الدهر إذا لم تحصل لهم أغراضهم ، ويمدحونه إذا حصلت لهم ، قال أبو العباس القرطبي : ولا شك في كفر من نسب تلك الأفعال أو شيئا منها للدهر حقيقة ، واعتقد ذلك . وأما من جرت هذه الألفاظ على لسانه ولا يعتقد صحة ذلك فليس بكافر ، ولكنه قد تشبه بأهل الكفر وبالجاهلية في الإطلاق ، وقد ارتكب ما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فليتب وليستغفر الله ، والدهر والزمان والأبد كلها بمعنى واحد ، وهو راجع إلى حركات الفلك وهي الليل والنهار ، والله أعلم .

                                                            (الرابعة) قال القرطبي أيضا : ليس هذا النهي مقصورا على هذا اللفظ بل يلتحق به كل ما في معناه من قولهم : خرق الفلك وانعكس الدهر وتعس وما في معنى ذلك .



                                                            (الخامسة) قوله : فإن الله هو الدهر قال النووي : قال العلماء : هو مجاز وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو مرض أو تلف مال أو غير ذلك ، فيقولون : يا خيبة الدهر ، ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله أي لا تسبوا فاعل النوازل ، فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها .

                                                            وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى ومعنى فإن الله هو الدهر أي فاعل النوازل والحوادث ، وخالق الكائنات والله أعلم .



                                                            (السادسة) استدل به بعضهم على أن الدهر من أسماء الله تعالى قال القاضي عياض وذكر بعض من لا تحقيق له أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى وهذا جهل [ ص: 157 ] من قائله وذريعة إلى مضاهاة قول الدهرية والمعطلة ، ويفسره قوله في الحديث الآخر : فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فهذا هو معنى ما أشار إليه المفسرون من أن فاعل ذلك في الدهر هو الله عز وجل والدهر بيده زمان الدنيا ، قال بعضهم : هو أحد مفعولات الله تعالى وقيل بل هو فعله كما قيل (أنا الموت) وكما قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وإنما رأوا أسبابه ، وقد شبه جهلة الدهرية وكفرة المعطلة بهذا الحديث على من لا علم عنده ولا حجة لهم فيه ؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ، ولا شيء عندهم سواه ولا صانع عند القائلين بقدم العالم منهم سواه ، فإذا كان عندهم هو المراد بالله ، فكيف يصرف ويقلب الشيء نفسه ؟ تعالى الله عن كفرهم وضلالهم انتهى .



                                                            (السابعة) قوله : يؤذيني ابن آدم قال المازري : هو مجاز والبارئ تعالى لا يتأذى من شيء فيحمل أن يريد ، أن هذا عندكم إذا ؛ لأن الإنسان إذا أحب آخر لم يصح أن يسبه لعلمه أن السب يؤذيه ، والمحبة تمنع من الأذى ومن فعل ما يكرهه المحبوب ، فكأنه قال : يفعل ما أنهاه عنه وما يخالفني فيه ، والمخالفة فيها أذى فيما بينكم فتجوز فيها في حق البارئ سبحانه انتهى .

                                                            وأحسن النووي التعبير عن ذلك مختصرا بقوله : معناه يعاملني معاملة توجب الأذى في حقكم .



                                                            (الثامنة) قوله في هذه الرواية الأخيرة : وأنا الدهر هو برفع الراء على الخبر كما صرح به في الرواية الأولى بقوله فإن الله هو الدهر قال النووي : هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الشافعي وأبو عبيد وجماهير المتقدمين والمتأخرين .

                                                            وقال أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني الظاهري إنما هو الدهر بالنصب على الظرف أي أنا مدة الدهر ، أقلب ليله ونهاره فيكون الخبر إما قوله : بيدي الأمر ، وإما قوله : أقلب الليل والنهار وحكى ابن عبد البر هذه الرواية عن بعض أهل العلم .

                                                            وقال النحاس : يجوز النصب أي فإن الله باق مقيم أبدا لا يزول قال القاضي عياض : قال بعضهم هو منصوب على الاختصاص ، قال والظرف أي بتقدير النصب أصح وأصوب .

                                                            وقال أبو العباس القرطبي بعد ذكره : إن الرواية الصحيحة المشهورة فيه الرفع ، والذي حمل راوي النصب على ذلك خوف أن يقال إن الدهر من أسماء [ ص: 158 ] الله تعالى وهذا عدول عما صح إلى ما لا يصح مخافة ما لا يصح ، فإن الرواية الصحيحة عند أهل التحقيق بالضم ، ولم يرو الفتح من يعتمد عليه ، ولا يلزم من ثبوت الضم أن يكون الدهر من أسماء الله تعالى لأن أسماء الله تعالى لا بد فيها من التوقيف عليها أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار ، فيخبر به وعنه ، وينادي به ولم يوجد في الدهر شيء من ذلك فلا يكون من أسمائه تعالى ثم لو سلم صحة النصب في ذلك اللفظ فلا يصح ذلك في الرواية التي قال فيها : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ولم يذكر أقلب الليل والنهار ولا يصح أن يقال : إن هذه الرواية مطلقة والأخرى مقيدة ؛ لأنا إن صرنا إلى ذلك لزم نصب الدهر بعامل محذوف ليس في الكلام ما يدل عليه ولزم حذف الخبر ولا دليل عليه وذلك باطل قطعا .




                                                            الخدمات العلمية