الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ولقد علمتم ) ، ولقد عرفتم . كقولك :

[ ص: 167 ] قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه " ، يعني عرفته ، ولم أكن أعرفه ، كما قال جل ثناؤه : ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) [ الأنفال : 60 ] ، يعني : لا تعرفونهم الله يعرفهم .

وقوله : ( الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، أي الذين تجاوزوا حدي ، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت ، وعصوا أمري .

وقد دللت - فيما مضى - على أن " الاعتداء " ، أصله تجاوز الحد في كل شيء . بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

قال أبو جعفر : وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها ، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود ، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم ، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق ، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه . كالذي : -

1138 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) يقول : ولقد عرفتم . وهذا تحذير لهم من المعصية . يقول : احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت ، إذ عصوني ، اعتدوا - يقول : اجترؤوا - في السبت . قال : لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة ، [ ص: 168 ] وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة ، وأن الساعة تقوم فيها . فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، قبل الجمعة وسمع وأطاع ، وعرف فضلها وثبت عليها ، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم . ومن لم يفعل ذلك ، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة ، وأخبرهم بفضلها - : يا موسى ، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها ، والسبت أفضل الأيام كلها ، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام ، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت ، وكان آخر الستة ؟ قال : وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له : كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها ، والأول أفضل ، والله واحد ، والواحد الأول أفضل ؟ فأوحى الله إلى عيسى : أن دعهم والأحد ، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا . - مما أمرهم به . فلم يفعلوا ، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم . قال : وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت - : أن دعهم والسبت ، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ، ولا يعملوا شيئا كما قالوا . قال : فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء ، فهو قوله : ( إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ) [ الأعراف : 163 ] ، يقول : ظاهرة على الماء ، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت ، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله : ( ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) [ الأعراف : 163 ] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله . فلما رأوها كذلك ، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة ، فتناول بعضهم [ ص: 169 ] منها فلم تمتنع عليه ، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى . فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم ، عادوا ، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء ، فكثروا في ذلك ، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا . وهو قول الله جل ثناؤه : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) - يقول : لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم . يقول : إذا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام . قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل . وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه . فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة ، وكذلك يفعل بمن شاء ، كما يشاء ، ويحوله كما يشاء .

1139 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال ابن عباس : إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة - . فخالفوا إلى السبت فعظموه ، وتركوا ما أمروا به . فلما أبوا إلا لزوم السبت ، ابتلاهم الله فيه ، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره . وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها " مدين " . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان : صيدها وأكلها . وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن ، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا . حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن . فكانوا كذلك ، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان ، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت ، فخزمه بخيط ، ثم أرسله في الماء ، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه ، ثم تركه . حتى إذا كان الغد ، جاء فأخذه - أي : إني لم آخذه في [ ص: 170 ] يوم السبت - ثم انطلق به فأكله . حتى إذا كان يوم السبت الآخر ، عاد لمثل ذلك ، ووجد الناس ريح الحيتان ، فقال أهل القرية : والله لقد وجدنا ريح الحيتان ! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل . قال : ففعلوا كما فعل ، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة ، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق . وقالت طائفة منهم من أهل البقية : ويحكم ! اتقوا الله ! ونهوهم عما كانوا يصنعون . وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ، ولم تنه القوم عما صنعوا : ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) لسخطنا أعمالهم - ( ولعلهم يتقون ) [ الأعراف : 164 ] ، قال ابن عباس : فبينما هم على ذلك ، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم ، وفقدوا الناس فلا يرونهم . فقال بعضهم لبعض : إن للناس لشأنا ! فانظروا ما هو ! فذهبوا ينظرون في دورهم ، فوجدوها مغلقة عليهم ، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم ، كما يغلق الناس على أنفسهم ، فأصبحوا فيها قردة ، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، والمرأة بعينها وإنها لقردة ، والصبي بعينه وإنه لقرد . قال : يقول ابن عباس : فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء ، لقلنا أهلك الجميع منهم . قالوا : وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) الآية [ الأعراف : 163 ] .

1140 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا ) [ ص: 171 ] ي : أحلت لهم الحيتان ، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . فصار القوم ثلاثة أصناف : فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية ، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله ، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية . فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه ، قال الله لهم : ( كونوا قردة خاسئين ) فصاروا قردة لها أذناب ، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء .

1141 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، قال : نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت ، فكانت تشرع إليهم يوم السبت ، وبلوا بذلك ، فاعتدوا فاصطادوها ، فجعلهم الله قردة خاسئين .

1142 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) قال : فهم أهل " أيلة " ، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج ، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء . فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت . فذلك قوله : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) [ الأعراف : 163 ] ، فاشتهى بعضهم السمك ، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر . فإذا كان يوم السبت فتح النهر ، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة . ويريد الحوت أن يخرج ، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فيها . فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه . فجعل الرجل يشوي [ ص: 172 ] السمك ، فيجد جاره ريحه ، فيسأله فيخبره ، فيصنع مثل ما صنع جاره . حتى إذا فشا فيهم أكل السمك ، قال لهم علماؤهم : ويحكم ! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم ! فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه ، فقال الفقهاء : لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل . فقالوا : لا ! وعتوا أن ينتهوا . فقال بعض الذين نهوهم لبعض : ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) [ الأعراف : 164 ] ، يقول : لم تعظونهم ، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : ( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) [ الأعراف : 164 ] . فلما أبوا قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة . فقسموا القرية بجدار ، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ، ولعنهم داود . فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم . فخرج المسلمون ذات يوم ، ولم يفتح الكفار بابهم . فلما أبطئوا عليهم ، تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ، ففتحوا عنهم ، فذهبوا في الأرض . فذلك قول الله عز وجل : ( فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) [ الأعراف : 166 ] ، فذلك حين يقول : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) [ المائدة : 78 ] ، فهم القردة .

1143 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . قال : لم يمسخوا ، إنما هو مثل ضربه الله لهم ، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .

1144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 173 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) . قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم ، كمثل الحمار يحمل أسفارا .

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله مجاهد ، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف . وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم : ( أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم ، وأنهم عبدوا العجل ، فجعل توبتهم قتل أنفسهم ، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] فابتلاهم بالتيه . فسواء قائل قال : هم لم يمسخهم قردة ، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال : لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم ، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم . ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه ، سئل البرهان على قوله ، وعورض - فيما أنكر من ذلك - بما أقر به ، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح .

هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه . وكفى دليلا على فساد قول ، إجماعها على تخطئته .

التالي السابق


الخدمات العلمية