الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل منزلة التبتل

ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة التبتل .

قال الله تعالى : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) .

والتبتل الانقطاع . وهو تفعل من البتل وهو القطع . وسميت مريم عليها السلام البتول لانقطاعها عن الأزواج ، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها . ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا . وقطعت منهن . ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ، ولكن جاء على التفعيل - مصدر تفعل - لسر لطيف . فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة . فأتى بالفعل الدال على أحدهما ، وبالمصدر [ ص: 31 ] الدال على الآخر . فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا ، وتبتل إليه تبتلا . ففهم المعنيان من الفعل ومصدره . وهذا كثير في القرآن . وهو من أحسن الاختصار والإيجاز .

قال صاحب " المنازل " :

التبتل الانقطاع إلى الله بالكلية . وقوله عز وجل : ( له دعوة الحق ) أي التجريد المحض .

ومراده بالتجريد المحض التبتل عن ملاحظة الأعواض . بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة . فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر ، بخلاف العبد . فإنه يخدم بمقتضى عبوديته ، لا للأجرة . فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا . والآبق قد خرج من شرف العبودية . ولم يحصل له إطلاق الحرية . فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده . وغاية شرف النفس دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة ، لا كرها وقهرا . كما قيل :


شرف النفوس دخولها في رقهم والعبد يحوي الفخر بالتمليك

والذي حسن استشهاده بقوله : ( له دعوة الحق ) في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى . وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته . وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا . فإنه يستحقها لذاته . فهو أهل أن يعبد وحده ، ويدعى وحده ، ويقصد ويشكر ويحمد ، ويحب ويرجى ويخاف ، ويتوكل عليه ، ويستعان به ، ويستجار به ، ويلجأ إليه ، ويصمد إليه . فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده .

ومن قام بقلبه هذا - معرفة وذوقا وحالا - صح له مقام التبتل ، والتجريد المحض . وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق . ومرادهم هذا المعنى .

فقال علي رضي الله عنه : دعوة الحق التوحيد ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدعاء بالإخلاص . والدعاء الخالص لا يكون إلا لله . ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها .

التالي السابق


الخدمات العلمية