الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في القسامة [ ص: 44 ] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية } رواه أحمد ومسلم والنسائي

                                                                                                                                            3033 - وعن سهل بن أبي حثمة قال : { انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما قال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده } رواه الجماعة .

                                                                                                                                            3034 - وفي رواية متفق عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته فقالوا أمر لم نشهده كيف نحلف قال فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا يا رسول الله قوم كفار } وذكر الحديث بنحوه وهو حجة لمن قال : لا يقسمون على أكثر من واحد

                                                                                                                                            3035 - وفي لفظ لأحمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه } وفي رواية متفق عليها { فقال لهم تأتون بالبينة على من قتله قالوا ما لنا من بينة قال فيحلفون قالوا لا نرضى بأيمان اليهود فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة }

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( ما جاء في القسامة ) بفتح القاف وتخفيف السين المهملة وهي مصدر أقسم ، والمراد بها الأيمان واشتقاق القسامة من القسم كاشتقاق الجماعة من الجمع . وقد حكى إمام الحرمين أن القسامة عند الفقهاء اسم للأيمان . وعند أهل اللغة اسم للحالفين ، وقد صرح بذلك في القاموس . وقال في الضياء : إنها الأيمان . وقال في المحكم : إنها في اللغة [ ص: 45 ] الجماعة ثم أطلقت على الأيمان .

                                                                                                                                            قوله : ( أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ) القسامة في الجاهلية قد أخرج البخاري والنسائي صفتها عن ابن عباس أن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى ، فانطلق معه في إبله ، فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل ، فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه ، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا ، فقال الذي استأجره : ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ، قال : ليس له عقال ، قال : فأين عقاله ؟ فحذفه بعصا كان فيه أجله ، فمر به رجل من أهل اليمن فقال : أتشهد الموسم ؟ قال : ما أشهده وربما شهدته . قال : هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر ؟ قال : نعم ، قال : فإذا شهدت فناد يا قريش ، فإذا أجابوك فناد يا آل هاشم ، فإن أجابوك فسل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر . فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال : ما فعل صاحبنا ؟ قال : مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه ، قال : قد كان أهل ذاك منك ، فمكث حينا ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال يا قريش ، قالوا : هذه قريش ، قال : يا آل بني هاشم ، قالوا : هذه بنو هاشم . قال : أين أبو طالب ؟ قالوا : هذا أبو طالب ، قال : أمرني فلان أن أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال ، فأتاه أبو طالب فقال : اختر منا إحدى ثلاث : إن شئت أن تودي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا ، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله ، فإن أبيت قتلناك به ، فأتى قومه فأخبرهم ، فقالوا : نحلف ، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه ، فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجير ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ، ففعل فأتاه رجل منهم فقال : يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران ، هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان ، فقبلهما ، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا ، قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف انتهى .

                                                                                                                                            وقد أخرج البيهقي من طريق سليمان بن يسار عن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود } .

                                                                                                                                            قوله : ( عن سهل بن أبي حثمة قال انطلق ) ، هكذا في كثير من روايات البخاري ومسلم .

                                                                                                                                            وفي رواية لمسلم " عن رجال من كبراء قومه " وفي أخرى له " عن رجل من كبراء قومه " . قوله : ( ومحيصة ) قد تقدم ضبطه في الباب الذي قبل هذا وهو ابن عم عبد الله بن سهل . قوله : ( يتشحط [ ص: 46 ] في دمه ) بالشين المعجمة والحاء المهملة المشددة بعدها طاء مهملة أيضا وهو الاضطراب في الدم . كما في القاموس .

                                                                                                                                            قوله : ( وحويصة ) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء مصغرا .

                                                                                                                                            وقد روي التخفيف فيه وفي محيصة . قوله : ( كبر كبر ) أي دع من هو أكبر منك سنا يتكلم ، هكذا في رواية يحيى بن سعيد أن الذي تكلم هو عبد الرحمن بن سهل وكان أصغرهم .

                                                                                                                                            وفي رواية أن الذي تكلم هو محيصة وكان أصغر من حويصة . قوله : ( أتحلفون وتستحقون صاحبكم ) فيه دليل على مشروعية القسامة .

                                                                                                                                            وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز والكوفة والشام ، حكى ذلك القاضي عياض ، ولم يختلف هؤلاء في الجملة إنما اختلفوا في التفاصيل على ما سيأتي بيانه . وروى القاضي عياض عن جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد

                                                                                                                                            وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه : منها : أن البينة على المدعي واليمين على المنكر في أصل الشرع . ومنها : أن اليمين لا يجوز إلا على ما علمه الإنسان قطعا بالمشاهدة الحسية أو ما يقوم مقامها . وأيضا لم يكن في حديث الباب حكم بالقسامة ، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية فتلطف لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف بطلانها ، وإلى عدم ثبوت القسامة أيضا ذهب الناصر كما حكاه عنه صاحب البحر .

                                                                                                                                            وأجيب بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل لورود الدليل بها فتخصص بها الأدلة العامة ، وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين ، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة ، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقا ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عرض على المتخاصمين اليمين وقال : { إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب } كما في رواية متفق عليها ، وهو لا يعرض إلا ما كان شرعا .

                                                                                                                                            وأما دعوى أنه قال ذلك للتلطف بهم وإنزالهم من حكم الجاهلية فباطلة ، كيف وفي حديث أبي سلمة المذكور في الباب { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية } .

                                                                                                                                            وقد قدمنا صفة الواقعة التي وقعت لأبي طالب مع قاتل الهاشمي .

                                                                                                                                            وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال : { وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما ، فوجده أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم } قال البيهقي : تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما .

                                                                                                                                            وقال العقيلي : هذا الحديث ليس له أصل .

                                                                                                                                            وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي " أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر ، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب ، فأحلفهم عمر خمسين يمينا ، كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتله ، ثم أغرمهم الدية ، فقالوا : يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت [ ص: 47 ] عن أموالنا ، ولا أموالنا دفعت عن أيماننا ؟ فقال عمر : كذلك الحق " وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عن سعيد بن المسيب ، وفيه أن عمر قال : { إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم } قال البيهقي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر ، وفيه عمر بن صبح أجمعوا على تركه .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : ليس بتكذيب إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور . وقال البيهقي : روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر .

                                                                                                                                            وروي عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع لكن لم يسمعه أبو إسحاق من الحارث وأخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطئ على أصبع رجل من جهينة فمات ، فقال عمر للذين ادعى عليهم : أتحلفون خمسين يمينا ما مات منها ، فأبوا ، فقال للآخرين : احلفوا أنتم ، فأبوا ، فقضى عمر بشطر الدية على السعديين ، وسيأتي حكمه صلى الله عليه وسلم على اليهود بالدية . قوله : ( فيدفع برمته ) قد تقدم ضبط الرمة وتفسيرها في الباب الأول .

                                                                                                                                            وقد استدل بهذا من قال : إنه يجب القود بالقسامة ، وإليه ذهب الزهري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ومعظم الحجازيين . وحكاه مالك عن ابن الزبير . واختلف في ذلك على عمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                            وحكى في البحر عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ومعاوية والمرتضى والشافعي في أحد قوليه أنه لا يجب القود بالقسامة ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين وكثير من البصريين وبعض المدنيين والثوري والأوزاعي والهادوية ، بل الواجب عندهم جميعا اليمين ، فيحلف خمسون رجلا من أهل القرية خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا قاتله ، ولا يمين على المدعي ، فإن حلفوا لزمتهم الدية عند جمهورهم . وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أن أبا بكر وعمر والجماعة الأولى لم يكونوا يقتلون بالقسامة .

                                                                                                                                            وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر أن القسامة إنما توجب العقل ولا تشيط الدم وقال عبد الرزاق في مصنفه : قلت لعبيد الله بن عمر العمري : أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال : لا ، قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا ، قلت : فعمر ؟ قال : لا ، قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت .

                                                                                                                                            وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : " تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته " أحمد ومالك في المشهور عنه أن القسامة إنما تكون على رجل واحد . وقال الجمهور : يشترط أن تكون على معين سواء كان واحدا أو أكثر . واختلفوا هل يختص القتل بواحد من الجماعة المعينين أو يقتل الكل . وقال أشهب : لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ويسجن الباقون عاما ويضربون مائة مائة . قال الحافظ : وهو قول لم يسبق إليه . وقال جماعة من أهل العلم : إن شرط القسامة أن تكون على غير معين . [ ص: 48 ] واستدلوا على ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور ، فإن الدعوى فيه وقعت على أهل خيبر من غير تعيين . ويجاب عن ذلك بأن غايته أن القسامة تصح على غير معين ، وليس فيه ما يدل على اشتراط كونها على غير معين ولا سيما وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية .

                                                                                                                                            وقد قدمنا أن أول قسامة كانت في الجاهلية قسامة أبي طالب وهي دعوى على معين كما تقدم . فإن قيل : إذا كانت على معين كان الواجب في العمد القود ، وفي الخطإ الدية فما وجه إيجاب القسامة ؟ فيقال : لما لم يكن على ذلك المعين بينة ولم يحصل منه مصادقة كان ذلك مجرد لوث ، فإن اللوث في الأصل هو ما يثمر صدق الدعوى ، وله صور ذكرها صاحب البحر : منها : وجود القتيل في بلد يسكنه محصورون ، فإن كان يدخله غيرهم اشترط عداوة المستوطنين للقتيل كما في قصة أهل خيبر . ومنها : وجوده في صحراء وبالقرب منه رجل في يده سلاح مخضوب بالدم ولم يكن هناك غيره . ومنها وجوده بين صفي القتال ، ومنها : وجوده ميتا بين مزدحمين في سوق أو نحوه .

                                                                                                                                            ومنها : كون الشهاد على القتل نساء أو صبيانا لا يقدر تواطؤهم على الكذب هذا معنى كلام البحر . ومن صور اللوث أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان أو هو قتلني أو نحو ذلك فإنها تثبت القسامة بذلك عند مالك والليث . وادعى مالك أن ذلك عليه الأئمة قديما وحديثا واعترض هذه الدعوى ابن العربي وفي الفتح أنه لم يقل بذلك غيرهما . ومنها : إذا كان الشهود غير عدول أو كان الشاهد واحدا فإنها تثبت القسامة عند مالك والليث ، ولم يحك صاحب البحر اشتراط اللوث إلا عن الشافعي . وحكي عن القاسمية والحنفية أنه لا يشترط . ورد بأن عدم الاشتراط غفلة عن أن الاختصاص بموضع الجناية نوع من اللوث والقسامة لا تثبت بدونه .

                                                                                                                                            قوله : ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) أي يخلصونكم عن الأيمان بأن يحلفوا ، فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء وخلصتم أنتم من الأيمان . والجمع بين هذه الرواية والرواية الأخرى التي فيها تقديم طلب البينة على اليمين حيث قال : " يأتون بالبينة على من قتله ، قالوا : ما لنا بينة " بأن يقال : إن الرواية الأخرى مشتملة على زيادة وهي طلب البينة أولا ثم اليمين ثانيا ، ولا وجه لما زعمه بعضهم من كون طلب البينة وهما في الرواية المذكورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين . قال الحافظ : إن سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين في خيبر فقد ثبت في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا ، فيجوز أن يكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك ، ثم قال : وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهدا ، وذكر حديث عمرو بن شعيب وحديث رافع بن خديج المتقدمين في الباب الأول .

                                                                                                                                            قوله : ( أن يبطل دمه ) في رواية للبخاري [ ص: 49 ] أن يطل دمه " بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام : أي يهدر قوله : ( فوداه بمائة من إبل الصدقة ) في الرواية الأولى " فعقله " أي أعطى ديته .

                                                                                                                                            وفي رواية " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عقله " والعقل : الدية كما تقدم . وقد زعم بعضهم أن قوله : " من إبل الصدقة " غلط من سعيد بن عبيد لتصريح يحيى بن سعيد بقوله : " فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده " وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده ، أو المراد بقوله : " من عنده " أي من بيت المال المرصد للمصالح وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا . وحمله بعضهم على ظاهره .

                                                                                                                                            وقد حكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة ، واستدل بهذا الحديث وغيره . قال القاضي عياض : وذهب من قال بالدية إلى تقديم المدعى عليهم في اليمين إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور يبدأ بالمدعين وردها إن أبوا على المدعى عليهم ، وقال بعكسه أهل الكوفة وكثير من أهل البصرة وبعض أهل المدينة . وقال الأوزاعي : يستحلف من أهل القرية خمسون رجلا خمسين يمينا ما قتلناه ولا علمنا من قتله ، فإن حلفوا برئوا ، وإن نقصت قسامتهم عن عدد أو نكول حلف المدعون على رجل واحد واستحقوا دمه ، فإن نقصت قسامتهم عادت دية ، وقال عثمان البتي : يبدأ المدعى عليهم بالأيمان ، فإن حلفوا فلا شيء عليهم . وقال الكوفيون : إذا حلفوا وجبت عليهم الدية .

                                                                                                                                            قال في الفتح : واتفقوا كلهم على أنها لا تجب القسامة بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها . واختلفوا في تصوير الشبهة على سبعة أوجه ثم ذكرها وذكر الخلاف في كل واحدة منها ، وهي ما أسلفناه في بيان صور اللوث . قال في الفتح بعد أن ذكر السابعة من تلك الصور وهي أن يوجد القتيل في محلة أو قبيلة أنه لا يوجب القسامة عند الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأتباعهم إلا هذه الصورة ولا يجب فيما سواها . وبهذا يتبين لك أن عدم اشتراط اللوث مطلقا بعد الاتفاق على تفسيره بما سلف غير صحيح . ومن شروط القسامة عند الجميع إلا الحنفية أن يوجد بالقتيل أثر . والحاصل أن أحكام القسامة مضطربة غاية الاضطراب ، والأدلة فيها واردة على أنحاء مختلفة ، ومذاهب العلماء في تفاصيلها متنوعة إلى أنواع ، ومتشعبة إلى شعب ، فمن رام الإحاطة بها فعليه بكتب الخلاف ومطولات شروح الحديث .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية